﴿ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾
بعض الناس يظن – خطأً - أن الله إذا أحب عبدًا أجزل له العطاء، وإذا أبغضه حجب عطاءه عنه: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16].
في الحديث الصحيح: ((إن اللهَ يُعطي الدنيا من يحبُّ ومن لا يحبُّ، ولا يعطي الإيمانَ إلا من يحبُّ)).
فلم تعرف الإنسانية رجلًا أُوتي من المال مثلما أُوتي قارون: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76]، ولكي تستحضر صورة الخزائن التي تحتوي على تلك الكنوز، فلك أن تتخيل أن مفاتيح خزائنه كانت تُحمل على ستين بغلًا!
هذا الرجل المتخم في ثرائه حينما رآه ضِعاف النفوس، والعوام من بني قومه؛ قالوا: ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79].
وأشهر مُبتلًى في تاريخ البشرية أيوب عليه السلام؛ فقد كان ذا مال عظيم، فامتحنه الله بذهاب ماله وأهله، وبالضر في جسمه، حتى تناثر لحمه وتدوَّد جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج البلدة، وقال أحدهم: "لو علم الله في أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا البلاء"، فلجأ إلى ربه متضرعًا: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84].
فلا مال قارون العظيم كان علامة رضًا، ولا ابتلاء أيوب الممتد كان دليلَ سخط، محدودو التفكير، وفاقدو الخبرة وحدهم من يتصور ذلك، والناس كلُّ الناس معرَّضون في هذه الحياة أن يُغمروا بالنعم، أو يُبتلوا بالنقم، ولا أحد - سوى الله تعالى - يمكنه الجزم بأن الخير في النعم أو النقم.
فإذا كنت تتمنى شراء بيت واسع، وحالَ ضيقُ اليد بينك وبينه، أو حلمت بالزواج بفتاة سبقك إليها شاب جاهز، أو تمنَّيت السفر للخارج ومنعتك الشهادة الصحية، أو تأخرت في الترقي وتجاوَزَكَ زملاؤك الأصغر منك، أو اشتقت لمولود لم يأتِ بعد؛ كل هذا يسير.
وإذا مكَّنك مجموع درجاتك من دخول الكلية التي حلمت بها، أو صرت مشهورًا وملء السمع والبصر، أو مكَّنتك ظروفك من أن تلبي لأولادك جميع ما يشتهون، أو حققت ما كنت تتمناه من بيت ورصيد بنكي؛ كل ذلك قليل؛ فقد يكون من قبيل قول الله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56].
يقول الإمام عليٌّ رضي الله عنه: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 23]، ومن لم يأسَ على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزهد بطرفيه".
فلا تندم على ما فات من مكاسب، ولا تفرح كثيرًا بما وُهبت من عرَضٍ زائل، لا تبكِ على شيء فاتَكَ، إلا إذا كان فواته نقصانًا للأجر والمثوبة، ولا تغتبط بشيء حُزتَه، إلا إذا كان يقربك إلى الله.
وافرح بذي رحِم وصلتَ؛ ففي الحديث القدسي، يقول رب العزة سبحانه: ((أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرَّحِم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه)).
واسعَد بصدقة أخرجتها سرًّا؛ فـ((صدقة السر تُطفئ غضبَ الربِّ)).
استأنس ببرك والديك؛ فـ((رِضَا الرَّبِّ في رِضَا الوالدين، وسخطُه في سَخَطِهِما)).
وانشرح بصحبتك للقرآن الكريم؛ فقد رغَّبنا النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته فقال: ((اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ)).
وعَضَّ أصابع الندم على شباب ضاع في اللهو والهرج؛ فتخرج من ظلال الرحمن، وقتَ لا ظل إلا ظله؛ ففي الحديث الصحيح: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه... وشابٌّ نشَأ في عبادةِ اللهِ تعالى)).
وتحسَّر على مال أُنفق على الخيابات؛ فـ((لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ... وعن مالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وفيمَ أنفقَهُ)).
ابكِ على تقصيرك في الذهاب للمسجد؛ فـ((لَمْ يَخْطُ خَطْوةً إِلا رُفِعَتْ لَه بهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّتْ عَنْه بهَا خَطِيئَةٌ)).
تَأَسَّ على هجرك لكتاب الله زمنًا: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
احزن لفوات سُنن كثيرة أجَّلتها أو أهملتها لمشاغل الأيام.
هذه هي الْمُفْرِحات والْمُحْزِنات، وما دون ذلك، فباطل الأباطيل، وقبض الريح.
يقول أبو سعيد الخراز: "كل ما فاتَكَ من اللهِ سوى اللهِ يسير، وكل حظٍّ لك سوى اللهِ قليل".
https://www.alukah.net/sharia/0/174839/%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%A7-%D9%81%D8%A7%D8%AA%D9%83%D9%85-%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%81%D8%B1%D8%AD%D9%88%D8%A7-%D8%A8%D9%85%D8%A7-%D8%A2%D8%AA%D8%A7%D9%83%D9%85/