تُكرَهُ المُداوِمةُ على الخَتمِ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ
.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لَم يَفقَهْ مَن قَرَأ القُرآنَ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ)) .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((صُمْ مِنَ الشَّهرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ، قال: أُطيقُ أكثَرَ مِن ذلك، فما زالَ حَتَّى قال: صُمْ يَومًا وأفطِرْ يَومًا، فقال: اقرَأِ القُرآنَ في كُلِّ شَهرٍ، قال: إنِّي أُطيقُ أكثَرَ، فما زالَ حَتَّى قال: في ثَلاثٍ)) .
3- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قال:
((كان نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى صَلاةً أحَبَّ أن يُداوِمَ عليها، وكان إذا غَلَبَه نَومٌ أو وجَعٌ عن قيامِ اللَّيلِ صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنتَي عَشرةَ رَكعةً، ولا أعلَمُ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَرَأ القُرآنَ كُلَّه في لَيلةٍ، ولا صَلَّى لَيلةً إلى الصُّبحِ، ولا صامَ شَهرًا كامِلًا غَيرَ رَمَضانَ)) .
4- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ شِبلٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((اقرؤوا القُرآنَ، ولا تَغْلُوا فيه، ولا تَجْفُوا عنه، ولا تَأكُلوا به، ولا تَستَكثِروا به ) .
قال ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه: "لا تَغْلُوا فيه"، أي: لا تُبالِغوا في تِلاوتِه بسُرعةٍ في أقصَرِ مُدَّةٍ؛ فإنَّ ذلك يُنافي التَّدَبُّرَ غالبًا؛ ولهذا قابَلَه بقَولِ: "ولا تَجفوا عنه"، أي: لا تَترُكوا تِلاوتَه)
.
ب- مِنَ الآثارِعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (اقرَؤوا القُرآنَ في سَبعٍ، ولا تَقرَؤوه في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ، وليُحافِظِ الرَّجُلُ في يَومِه ولَيلَتِه على جُزئِه)
.
فَوائِدُ:1- قال النَّوويُّ بَعدَ أن ذَكَرَ بَعضَ مَن كان يَختِمُ القُرآنَ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ: (المُختارُ أنَّ ذلك يَختَلفُ باختِلافِ الأشخاصِ؛ فمَن كان يَظهَرُ له بدَقيقِ الفِكرِ لَطائِفُ ومَعارِفُ فليَقتَصِرْ على قَدرٍ يَحصُلُ له كَمالُ فَهمِ ما يَقرَأُ، وكَذا مَن كان مَشغولًا بنَشرِ العِلمِ، أو فَصلِ الحُكوماتِ بَينَ المُسلِمينَ، أو غَيرِ ذلك مِن مُهمَّاتِ الدِّينِ والمَصالحِ العامَّةِ للمُسلِمينَ، فليَقتَصِرْ على قَدرٍ لا يَحصُلُ له بسَبَبِه إخلالٌ بما هو مُرصَدٌ له، ولا فَوتُ كَمالِه، ومَن لَم يَكُنْ مِن هؤلاء المَذكورينَ فليَستَكثِرْ ما أمكَنَه مِن غَيرِ خُروجٍ إلى حَدِّ المَلَلِ أوِ الهَذرَمةِ في القِراءةِ. وقد كَرِهَ جَماعةٌ مِنَ المُتَقدِّمينَ الخَتمَ في يَومٍ ولَيلةٍ)
.
وقال ابنُ كَثيرٍ بَعدَ أن أورَدَ طَرَفًا مِن أخبارِ مَن خَتَمَ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ: (هذا وأمثالُه مِنَ الصَّحيحِ عنِ السَّلَفِ مَحمولٌ إمَّا على أنَّه ما بَلَغَهم في ذلك حَديثٌ مِمَّا تَقدَّمَ، أو أنَّهم كانوا يَفهَمونَ ويَتَفكَّرونَ فيما يقرؤونه مَعَ هذه السُّرعةِ، واللَّهُ سُبحانَه وتعالى أعلَمُ)
.
2- قال ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ: (إنَّما ورَدَ النَّهيُ عن قِراءةِ القُرآنِ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ على المُداومةِ على ذلك، فأمَّا في الأوقاتِ المُفضَّلةِ، كشَهرِ رَمَضانَ -خُصوصًا اللَّياليَ التي يُطلَبُ فيها لَيلةُ القَدرِ- أو في الأماكِنِ المُفضَّلةِ، كمَكَّةَ لمَن دَخَلَها مِن غَيرِ أهلِها؛ فيُستَحَبُّ الإكثارُ فيها مِن تِلاوةِ القُرآنِ؛ اغتِنامًا للزَّمانِ والمَكانِ، وهو قَولُ أحمَدَ وإسحاقَ وغَيرِهما مِنَ الأئِمَّةِ، وعليه يَدُلُّ عَمَلُ غَيرِهم)
.
3- قال الذَّهَبيُّ: (صَحَّ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نازَلَ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو إلى ثَلاثِ لَيالٍ، ونَهاه أن يَقرَأَه في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ، وهذا كان في الذي نَزلَ مِنَ القُرآنِ، ثُمَّ بَعدَ هذا القَولِ نَزَل ما بَقيَ مِنَ القُرآنِ.
فأقَلُّ مَراتِبِ النَّهيِ أن تُكرَهَ تِلاوةُ القُرآنِ كُلِّه في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ
، فما فَقِهَ ولا تدَبَّر مَن تَلا في أقَلَّ مِن ذلك.
ولَو تَلا ورَتَّلَ في أُسبوعٍ، ولازَمَ ذلك، لَكان عَمَلًا فاضِلًا، فالدِّينُ يُسرٌ، فواللهِ إنَّ تَرتيلَ سُبعِ القُرآنِ في تَهَجُّدِ قيامِ اللَّيلِ مَعَ المُحافظةِ على النَّوافِلِ الرَّاتِبةِ، والضُّحى، وتَحيَّةِ المَسجِدِ، مَعَ الأذكارِ المَأثورةِ الثَّابتةِ، والقَولِ عِندَ النَّومِ واليَقَظةِ، ودُبُرَ المَكتوبةِ والسَّحَرِ، مَعَ النَّظَرِ في العِلمِ النَّافِعِ والاشتِغالِ به مُخلِصًا للهِ، مَعَ الأمرِ بالمَعروفِ، وإرشادِ الجاهِلِ وتَفهيمِه، وزَجرِ الفاسِقِ، ونَحوِ ذلك، مَعَ أداءِ الفرائِضِ في جَماعةٍ بخُشوعٍ وطُمَأنينةٍ وانكِسارٍ وإيمانٍ، مَعَ أداءِ الواجِبِ، واجتِنابِ الكَبائِرِ، وكَثرةِ الدُّعاءِ والاستِغفارِ، والصَّدَقةِ وصِلةِ الرَّحِمِ، والتَّواضُعِ، والإخلاصِ في جَميعِ ذلك: لشُغلٌ عَظيمٌ جَسيمٌ، ولمَقامُ أصحابِ اليَمينِ وأولياءِ اللهِ المُتَّقينَ؛ فإنَّ سائِرَ ذلك مَطلوبٌ.
فمَتى تَشاغَلَ العابدُ بخَتمةٍ في كُلِّ يَومٍ فقد خالَف الحَنيفيَّةَ السَّمحةَ، ولَم يَنهَضْ بأكثَرِ ما ذَكَرناه، ولا تَدَبَّر ما يَتلوه.
هذا السَّيِّدُ العابدُ الصَّاحِبُ كان يَقولُ لمَّا شاخَ: لَيتَني قَبِلتُ رُخصةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
.
وكَذلك قال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الصَّومِ، وما زالَ يُناقِصُه حَتَّى قال له:
((صُمْ يَومًا، وأفطِرْ يَومًا، صَومَ أخي داوُدَ عليه السَّلامُ)) .
وثَبَتَ أنَّه قال:
((أفضَلُ الصِّيامِ صيامُ داوُدَ)) .
ونَهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن صيامِ الدَّهرِ
.
وأمَر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنومِ قِسطٍ مِنَ اللَّيلِ، وقال:
((لَكِنِّي أقومُ وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، وآكُلُ اللَّحمَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي)) .
وكُلُّ مَن لَم يَزُمَّ نَفسَه في تَعَبُّدِه وأورادِه بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، يَندَمُ ويَتَرَهَّبُ ويَسوءُ مِزاجُه، ويَفوتُه خَيرٌ كَثيرٌ مِن مُتابَعةِ سُنَّةِ نَبيِّه الرَّؤوفِ الرَّحيمِ بالمُؤمِنينَ، الحَريصِ على نَفعِهم، وما زالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعَلِّمًا للأُمَّةِ أفضَلَ الأعمالِ، وآمِرًا بهَجرِ التَّبَتُّلِ والرَّهبانيَّةِ التي لَم يُبعَثْ بها؛ فنَهى عن سَردِ الصَّومِ، ونَهى عنِ الوِصالِ، وعن قيامِ أكثَرِ اللَّيلِ إلَّا في العَشرِ الأخيرِ، ونَهى عنِ العُزبةِ للمُستَطيعِ، ونَهى عن تَركِ اللَّحمِ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأوامِرِ والنَّواهي.
فالعابدُ بلا مَعرِفةٍ لكَثيرٍ مِن ذلك مَعذورٌ مَأجورٌ، والعابِدُ العالِمُ بالآثارِ المُحَمَّديَّةِ المُتَجاوِزُ لَها مَفضولٌ مَغرورٌ، وأحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى أدوَمُها وإن قَلَّ. ألهَمَنا اللهُ وإيَّاكُم حُسنَ المُتابَعةِ، وجَنَّبَنا الهَوى والمُخالَفةَ)
.
سادسَ عشرَ: عَدَمُ المُداومةِ على الخَتمِ في أقَلَّ مِن ثَلاثٍ - موسوعة الآداب الشرعية - الدرر السنية