من آداب الصيام:
الترفع عمَّا يحبط ثواب الصوم من المعاصي الظاهرة والباطنة
إن الصيام الذي أمرنا الله عز وجل به ليس صيامًا عن الطعام والشراب فقط، ولكنه صيام الجوارح كلها عن معصية الله عز وجل، وهذا هو مقصود الصيام وحقيقته، فيجب أن يصون الصائم لسانه عن اللغو والهذيان، والكذب والغيبة والنميمة والفحش، والجفاء والخصومة والمراء، ويكُفَّ جوارحه عن جميع الشهوات والمحرمات، فإن هذا هو سر الصوم وهو تحصيل التقوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وقد اختلف العلماء في تعريف التقوى، وكل التعريفات تدور حول مفهوم واحد وهو: أن يأخذ العبد وقايته من سخط الله عز وجل وعذابه، وذلك بامتثال المأمور واجتناب المحظور، فعلى العبد أن يفعل ما أُمر به، ويجتنب ما نُهيَ عنه، خصوصًا في الصيام، وأخرج البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "... وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ [1] وَلاَ يَصْخَبْ[2] ولا يجهل[3]، فإن شاتمه أحد أو قاتله أحد فليقل: إني صائم"، وفي روايةٍ: "... إذا أصبَحَ أحدُكم يومًا صائمًا فلا يرْفُثْ ولا يَجهَلْ، فإنِ امرؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَه، فلْيَقلْ: إنِّي صائِمٌ، إنِّي صائِمٌ..."، وفي روايةٍ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ".
وعند البخاري في كتاب "الصيام" (باب حفظ اللسان للصائم وفضل الصيام) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّةٌ، وإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخب، فإنه سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح": "ويُستفاد من الأحاديث السابقة أن هذه المعاصي يزيد قبحُها في الصيام على غيرها، وأنها تخدش في سلامة الصيام، بل ربما اقتضت عدم الثواب عليه"، وقال القرطبي رحمه الله: "لا يُفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم"؛ (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، أبو الحسن المباركفوري: 6/ 411).
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي"؛ (انظر: الكافي في فقه الإمام أحمد لابن قدامة: 1/ 448).
وقال النووي رحمه الله: ينبغي للصائم أن ينزِّه صومه عن الغيبة والشتم، ومعناه: يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره للحديث، وإلا فغيرُ الصائم ينبغي له ذلك أيضًا، ويؤمر به في كل حال، والتنزه التباعد، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي، فقال: يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه، واحتج بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، وبحديثه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعملَ به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"؛ (رواه البخاري)، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"؛ (رواه النسائي وابن ماجه)، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب فقط، الصيام من اللغو والرفث"؛ (رواه البيهقي والحاكم)، وبالحديث الآخر: "خمس يفطرن الصائم الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة".
وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث سوى الأخير بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة، إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الرديء، لا أن الصوم يبطل به، وأما الحديث الأخير: "خمس يفطرنَ الصائم"، فحديث باطل لا يحتج به، وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما بأن المراد: بطلان الثواب لا نفس الصوم"؛ (المجموع للنووي: 6/ 356).
وأخرج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جُنَّةٌ من النار، فمَن أصبح صائمًا فلا يجهل يومئذ، وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبُّه، وليقل: إني صائم".
وقال ابن القيم رحمه الله: "الصائم هو: الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يُفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم"؛ (الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم ص26).
وأخرج الحاكم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سَابَّكَ أحدٌ، أو جهل عليك، فقل: إني صائم إني صائم"؛ (صحيح الجامع: 5376).
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى وابن حبان في صحيحه بلفظ: "إِنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ..."؛ (قال الشيخ الألباني: صحيح).
وفي الحَديثِ السابق يقولُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ليس الصِّيامُ من الأكْلِ والشُّربِ"، يعني: ليس الصَّومُ الذي أَمَرَ اللهُ به مُجرَّدَ الامتناعِ عن الأكْلِ والشُّربِ فقط، "إنَّما الصِّيامُ" الحقيقيُّ الذي أرادَه اللهُ هو صِيامٌ عن الأكْلِ والشُّربِ، وصيامٌ من اللَّغوِ والرَّفَثِ، أي: الفُحشِ من الكَلامِ وجميعِ القبائِحِ.
ومَن يجهل حقيقة الصيام وحفظ الجوارح عن الآثام، فله حظٌّ ونصيب من كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال: "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر"؛ (رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وهو في صحيح الجامع: 3488).
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ"؛ (قال الأعظمي: إسناده صحيح)، وفي رواية أخرى عند الطبراني: "رُبَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر، ورُبَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش"؛ (صحيح الجامع: 3490).
وفي رواية أخرى عند الدارمي: "كم من صائمٍ ليس من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائمٍ ليس من قيامه إلا السهر"؛ (إسناده جيد "انظر مشكاة المصابيح").
قال الغزالي رحمه الله في الأحاديث السابقة: "قيل: هو الذي يفطر على حرام، أو مَن يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو مَن لا يحفظ جوارحه عن الآثام"؛ اهـ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"، وفي لفظٍ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَلَا شَرَابَهُ"؛ (أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائي السنن الكبرى).
يقول الغزالي رحمه الله في "الإحياء: 1 /277": أعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص، فصومُ القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكف عما سوى الله بالكلية، فهو إقبال بكل الهمة على الله عز وجل، وانصراف عن غير الله سبحانه.
أحبتي في الله، صوموا اليوم عن شهوات الهوى؛ لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولنَّ عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، ووعيد اللقاء قد اقترب، حقِّقوا الصيام في نفوسكم بالإمساك عما يغضب الله، واحذروا المعاصي المؤدية إلى عذاب النار، وبادروا إلى ما ينجيكم، وانتهوا عمَّا يُوبقكم ويُرديكم.
[1] الرفث: بفتح الراء والفاء؛ يطلق ويراد به الجماع ومقدماته، ويطلق ويراد به الفحش، ويطلق ويراد به خطاب الرجل والمرأة فيما يتعلق بالجماع، أي على الإفضاء بالجماع والمباشرة لشهوة، قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [سورة البقرة، ١٨٧]؛ (انظر فتح الباري:4 /104)، وقال كثير من العلماء: إن المراد به في هذا الحديث الفحش وردى الكلام وقبيحه، وقيل: يحتمل أن يكون النهي لما هو أعم من ذلك، والله أعلم.
[2] ولا يصخب: بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحة، والصَّخَب: هو الخِصامُ والصِّياحُ. (فتح الباري لابن حجر: 4 /118).
[3] ولا يجهل: والجهل هنا المراد به: ما يقابل الحِلْمَ، قال النووي -رحمه الله-: الجهلُ قَريبٌ مِنَ الرَّفَثِ، وهو خلافُ الحِكمةِ، وخلافُ الصَّوابِ مِن القَولِ والفِعلِ". (شرح النووي على مسلم: 8 /28). وقال الحافظ ابنُ حجر -رحمه الله-: "قولُه: ولا يَجهَل، أي لا يفعَلْ شيئًا مِن أفعالِ أهلِ الجَهلِ؛ كالصِّياحِ والسَّفَهِ". (فتح الباري: 4 /104). وقال ابنُ عُثيمين -رحمه الله-: "ولا يجهَلْ: يعني: لا يعتَدِ على أحدٍ، وليس المراد: لا يَجهَل، يعني: يتعَلَّم، ولكنَّه الجَهلُ مِنَ الجهالةِ لا مِنَ الجَهلِ...". (شرح صحيح مسلم: 4 /119).
https://www.alukah.net