

عطاء الإمام الليث بن سعد المصري:
عن محمد بن أحمد بن عياض المفرض: سمعت حرملة يقول: كان الليث بن سعد يصل مالكًا بمائة دينار في السنة، فكتب مالك إليه: عليَّ دين، فبعث إليه بخمسمائة دينار، فسمعت ابن وهب يقول: كتب مالك إلى الليث: إني أريد أن أُدخل بنتي على زوجها، فأُحب أن تبعث لي بشيء من عصفر، فبعث إليه بثلاثين حملًا عصفرًا، فباع منه بخمسمائة دينار، وبقِي عنده فضلة.
قال أبو داود: قال قتيبة: كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة، وقال: ما وجبت عليَّ زكاة قط، وأعطى الليث ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى مالكًا ألف دينار، وأعطى منصور بن عمار الواعظ ألف دينار وجاريةً تسوى ثلاثمائة دينار.
قال: وجاءت امرأة إلى الليث، فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنًا لي عليل، واشتهى عسلًا، فقال: يا غلامُ، أعطها مرطًا من عسل، والمرط: عشرون ومائة رطل.
قال عبدالملك بن شعيب بن الليث بن سعد: سمعت أبي يقول: ما وجبت عليَّ زكاة منذ بلغت.
وقال أبو صالح: سألتْ امرأة الليثَ من عسل، فأمر لها بزِقٍّ[2]، وقال: سألت على قدرها، وأعطيناها على قدر السَّعة علينا.
قال يعقوب بن شيبة: حدثني عبدالله بن إسحاق، سمعت يحيى بن إسحاق السيلحيني، قال: جاءت امرأة بسُكُرُّجة[3] إلى الليث تطلب عسلًا، فأمر من يحمل معها زقًّا، فجعلت تأبى، وجعل الليث يأبى إلا أن يحمل معها من عسل، وقال: نعطيكِ على قدرنا.
عن أحمد بن عثمان النسائي: سمعت قتيبة، سمعت شعيب بن الليث يقول: خرجت حاجًّا مع أبي، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، قال: فجعل على الطبق ألف دينار، ورده إليه.
عن إسماعيل سمويه: حدثنا عبدالله بن صالح، قال: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، كان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض.
قال محمد بن صالح الأشج: سُئل قتيبة: من أخرج لكم هذه الأحاديث من عند الليث؟ فقال: شيخ كان يُقال له: زيد بن الحباب، وقدم منصور بن عمار على الليث، فوصله بألف دينار، واحترقت دار ابن لهيعة، فوصله بألف دينار، ووصل مالكًا بألف دينار، وكساني قميصَ سندس، فهو عندي؛ رواها صالح بن أحمد الهمذاني، عن محمد بن علي بن الحسين الصيدناني، سمعت الأشج.
أحمد بن عثمان النسائي: سمعت قتيبة، سمعت شعيبًا يقول: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفًا، تأتي عليه السنة وعليه دَين.
وبه إلى الخطيب: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن جعفر، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرملي، سمعت محمد بن رمح يقول: كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط، قلت: ما مضى في دخله أصح.
علم الإمام الليث بن سعد المصري وإمامته:
روى عبدالملك بن شعيب، عن أبيه، قال: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أوَكُلُّ ما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري، ما وسعه هذا المركب.
عن يحيى بن بكير: قال الليث: كنت بالمدينة مع الحجاج وهي كثيرة السِرقين[4]، فكنت ألبس خُفين، فإذا بلغت باب المسجد، نزعت أحدهما، ودخلت، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا تفعل هذا؛ فإنك إمام منظور إليك؛ يريد: لُبس خفٍّ على خف.
عن الأثرم: سمعت أبا عبدالله يقول: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكير، ما أصح حديث ليث بن سعد، وجعل يُثني عليه ...
وقال أحمد بن سعد الزهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليث ثقة ثبت.
وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس في المصريين أصحُّ حديثًا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث يقاربه.
وقال عبدالله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أصح الناس حديثًا عن سعيد المقبري ليث بن سعد، يفصل ما روى عن أبي هريرة، وما عن أبيه عن أبي هريرة، هو ثبت في حديثه جدًّا.
قال ابن سعد: استقل الليث بالفتوى، وكان ثقة، كثير الحديث، سريًّا من الرجال، سخيًّا، له ضيافة.
عن عباس الدوري: حدثنا يحيى بن معين، قال: هذه رسالة مالك إلى الليث، حدثنا بها عبدالله بن صالح يقول فيها: وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك.
عن أحمد بن عبدالرحمن بن وهب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
وقال أبو زرعة الرازي: سمعت يحيى بن بكير يقول: الليث أفقه من مالك، ولكن الحظوة لمالك رحمه الله.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للأثر من مالك.
عن أبي صالح كاتب الليث، قال: كنا على باب مالك، فامتنع عن الحديث، فقلت: ما يشبه هذا صاحبنا؟ قال: فسمعها مالك، فأدخلنا، وقال: من صاحبكم؟ قلت: الليث، قال: تُشبهونا برجل كتبت إليه في قليل عصفر، نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ منه ما بعنا فضلته بألف دينار؟!
عن محمد بن أحمد بن عياض المفرض: حدثنا إسماعيل بن عمرو الغافقي، سمعت أشهب بن عبدالعزيز يقول: كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها؛ أما أولها، فيجلس لنائبة السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمرًا، أو من السلطان، كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل، يغشاه الناس، فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، وكان يُطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سَوِيق اللوز في السكر.
قال أحمد بن صالح: أعضلت الرشيد مسألة، فجمع لها فقهاء الأرض، حتى أشخص الليث، فأخرجه منها.
علو سند الإمام الليث:
قد روى الليث إسنادًا عاليًا في زمانه، فعنده عن عطاء عن عائشة، وعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر، وعن المقبري عن أبي هريرة، وهذا النمط أعلى ما يوجد في زمانه.
توقير الأئمة والعلماء للإمام الليث:
قال عبدالعزيز الدراوردي: لقد رأيت الليث، وإن ربيعة ويحيى بن سعيد ليتزحزحون له زحزحة، قال سعيد الآدم: قال العلاء بن كثير: الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا.
قال ابن سعد: كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه.
وفاة الإمام الليث:
قال يحيى بن بكير، وسعيد بن أبي مريم: مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، قال يحيى: يوم الجمعة، وصلى عليه موسى بن عيسى، وقال سعيد: مات ليلة الجمعة.
قال خالد بن عبدالسلام الصدفي: شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي، فما رأيت جنازة قط أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزي بعضهم بعضًا، ويبكون، فقلت: يا أبت، كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة، فقال: يا بني، لا ترى مثله أبدًا.
[1] منتقى من سير أعلام النبلاء للذهبي، ج8، ص149.
[2] الزق ظرف من جلد يُجعل فيه السمن أو العسل، وهو ما يقارب ستة عشر رطلًا بالعراقي، والرطل نحو 470 غرام.
[3] السُّكُرُّجة: إناء صغير يؤكل فيه الشَّيء القليل من الأَدَم.
[4] يقال فيه أيضًا: السرجين، وهو زبل الحيوانات.
المصدر : شبكة الألوكة