تعد الحرب بكل أشكالها قهراً لإنسانية الإنسان، مهما كانت نتائجها بالنسبة للطرفين المتحاربين، وهذه النتيجة مسلمة يؤمن بها الرجال منذ فجر التاريخ، إلا أن مصالحهم الشخصية الضيقة وطموحاتهم المرضية تتغلب على الجوانب الإنسانية بكل تفاصيل الحياة، من حيث المجد والشهرة وإشباع النزعات المرضية الخفية التي تحرك رجالات الحرب.
فآلة الحرب بكل ما تحمله من أجهزة ومعدات مصاحبة لها، إنما هي في جوهرها تبادل منظم للعنف، والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة، وهي إحدى أجهزة الحرب وآلياتها، فبينما تهاجم الأولى الجسد، فإن الثانية تنقض على العقل، الأولى حسية والثانية نفسية، وفي زمن الحرب تهاجم الدعاية والأعمال الحربية النفسية جزءاً من الجسد، لا تستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه، في محاولة للتأثير في طريقة أداء الأطراف المشاركة في ميدان القتال، حتى أن الدعاية للحرب قديمة قدم الحرب ذاتها، وإن الذخائر التي ينتجها العقل والتي توجه إلى العقل، هي أسلحة أثبتت أنها لا تقل أهمية عن أي من الأسلحة التي ابتكرها الإنسان حتى الآن بهدف محو وجود اخوته في الإنسانية، وقال (البيركامي): (على اتساع خمس قارات خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع الودي... ومن هنا سيكون السبيل المشرف الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات)(3 :30)
وتحققت في إعلام الحرب السيادة على الأعداء، ولكن بقيت آلة الحرب بكل إمكاناتها تعمل خفية، ولكنها توجهت للدماغ، فكان من نتائجها الحرب على الدماغ، وتسييره نحو حرب جديدة، وهي سياسة الدول المنتصرة في الحرب، وتسخير كل الشعوب لها، ولو بوسائل تختلف كلياً عما كان يمارس زمن الحرب، ولكن تبقى أداة الحرب المتمثلة في العنف الفردي والسلوك العدواني هي النتيجة المحققة في زمن السلم، بحيث أصبحت الكلمات أقوى من الطلقات لا سيما أن أدوات الدعاية والإعلام أخذت مفعولها في التأثير بشكل لا يرد، ولا يمكن إيقافه كحرب مستمرة، وهي امتداد طبيعي للحرب.
إن العنف المتعلم واقعياً من الحرب، والمنقول من جبهات القتال لسنوات أو أشهر،، يشكل بحد ذاته سلوكاً يطغى على تصرفات الشخص المشارك في الحرب أو العنف، بالإضافة إلى الإعلام والدعاية المصاحبة لهما وإظهار صورة النصر البراقة كإيقاع حتمي في النتيجة، مما يضفي على سلوك أفراد المجتمع هذه المسحة الملفوفة بالعنف، رغم أن التلفزيون والسينما والصحافة التي ما زالت تذكر الناس بالانتصارات المتحققة في الحرب والمباهاة الزائدة بحق الشعوب بالزهو فيها وتمنحها دفعات قوية من الانفعالات، كذلك محاولة مزج صورة العنف الدموي وصور القتل كبديهية لا بد من قبولها واقعاً متحققاً، فينشأ لدى معظم الناس الإعداد النفسي مع التهيؤ الملائم لقبول العنف والسلوك العدواني كحقيقة واقعية وسلوك طبيعي، ويمكن تفسير مشاهد العنف والسلوك العدواني من خلال:
1- التعلم الرصدي الذي من خلاله ترتسم السلوكيات العدوانية وتوصف في التلفاز ويتم تعلمها من قبل المشاهد.
2- التفريغ الانفعالي الذي من خلاله يجنح المشاهد إلى الانسياق وراء دوافع السلوكيات العدوانية ويؤدي ذلك إلى تناقص هذا الدافع نتيجة مشاهدة الفاعلين وهم يتصرفون تصرفاً عدوانياً.
3- حدوث تغيرات في الإثارة الفسيولوجية أو العاطفية وفي الاستجابة، والتي تتجسد بمشاهدة العنف، وبعاطفة العدوان.
4- تبدلات الموقف التي يترتب عليها التعرض إلى مشاهد العنف و ظهور عاطفة العدوان، أي تأثيراتها على السلوك.
5- عمليات التبرير الصادرة عن الأولاد العدوانيين الذين يرقبون ويشاهدون أفلام العنف لأنها تزودهم بالغرض لتبرير سلوكهم العدواني على أساس كونه عادياً(4 :46).