المكانُ: مسجدُ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
الزمانُ: السنةُ الثالثةُ والعشرونَ من الهجرةِ،
وصفُ الحدثِ:
يَخرجُ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطابِ من بيتهِ؛ ليصليَ بالناسِ صلاةَ الفجرِ، يدخلُ المسجدَ، تُقامُ الصلاةُ، يَتقدمُ عمرُ ويُسوِّيْ الصفوفَ ويُكبرُ، فما إنْ كبَّرَ حتى تقدمَ إليهِ المجرمُ أبُو لؤلؤةَ المجوسيُ، فيَطعَنُهُ عِدةَ طعناتٍ بسكينٍ ذاتِ حَدَّينِ.
أما الصحابةُ الذينَ خلْفَ عمرَ، فسُقِطَ في أيديهِمْ أمامَ هذا المنظرِ الفاجِعِ، وأما مَن كانَ في آخرِ المسجدِ فلم يَدْرُوا ما الخبرُ؟ فما إنْ فَقدُوا صوتَ عمرَ رفعُوا أصواتَهم: سبحانَ اللهِ، سبحانَ اللهِ!، ولكنْ لا مُجيبَ، ويَتناولُ عمرُ يدَ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ فيُقدمُه فيُصليْ بالناسِ؛ لأن الصلاةَ همُّهُ.
يُحمَلُ الفاروقُ إلى بيتهِ، فيُغشَى عليهِ حتى يُسفِرَ الصبحُ، ويجتمعُ الصحابةُ عندَ رأسهِ، وأرادُوا أن يُفزِعُوهُ بشيءٍ ليُفيقَ من غَشْيتهِ، فلم يَقدرُوا، فجاءَ الشابُ العالمُ البحرُ الحبرُ ابنُ عباسٍ الذي لم يَتجاوزْ عمرُهُ السابعةَ والعشرينَ، لكنه أكثرُ مُجالِسٍ ومُقرَّبٍ لعمرَ،
فتذكرَ أن قلبَ عمرَ معلقٌ بالصلاةِ، وقيل له: "إِنَّكُمْ لَنْ تُفْزِعُوهُ بِشَيءٍ إِلَّا بِالصَّلَاةِ، إِنْ كَانَتْ بِهِ حَيَاةٌ"، فناداهُ ابنُ عباسٍ عندَ رأسهِ: "الصَّلَاةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ"،
فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، وقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"،
فَقَالُوا: نَعَمْ،
فقَالَ: "أَمَا إِنَّهُ لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ تَرَكَ الصَّلَاةَ"، فَصَلَّى وَجُرْحُهُ يَثعَبُ دَمًا.
نعم، يُصلونَ وهم في سكراتِ الموتِ،
نعم، هَمُّهمْ مع صلاتِهمْ في كلِ حياتِهمْ؛
ولذا لما تولَّى عُمَرُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: "إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ"(موطأ مالك).
كيفَ لا؟! وقد كانت هذهِ الفريضةُ الهمَّ الأولَ لأخشَى وأخشعِ الناسِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكانَ يقولُ وهو يُعالجُ سكراتِ الموتِ: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ"، حَتَّى جَعَلَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ.
أيُها المصلونَ:
إن شأنَ الصلاةِ قائمٌ دائمٌ قبلَ وبعدَ رُكنِ الحجِ والصومِ والزكاةِ، وهيَ العمودُ، وهل يَرفعُ الخَيمةَ ألفُ وَتَدٍ إنْ لم يكنْ لها عمودٌ في الوسَطِ؟ أليسَ عمودُ الإسلامِ الصلاةَ؟!.
وإن الصلاةَ تحتاجُ منا إلى مثابَرَةٍ ومُصابرةٍ؛ ولذا قالَ اللهُ: (وإنّهَا لَكَبِيْرَةٌ إلا عَلَى الخاشِعِيْنَ)، فالصلاةٌ عظيمةٌ معظمةٌ،
فهل عظَّم قَدرَ الصلاةِ مَن صلاها بالبيتِ لا بالمسجدِ جماعةً؟!
هل عظَّمَ الصلاةَ مَن نامَ عن فَجرِها أو عَصرِها بحجةِ الدوامِ؟!
هل عظَّمَ الصلاةَ مَن تعوَّدَ أن يؤخرَها ويصليَها في مساجدِ الجماعاتِ؟!.
فلنُشغِلْ بالَنا بالأهمِ أكثرَ من المهمِ، ولنجعلْ أهمَ أشغالِنا صلاتَنا، كما قالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا"(متفقٌ عليهِ)،
فإن لم تكنِ الصلاةُ شُغلَنا الشاغلَ؛ فلتُسَلَّطَنَّ علينا أشغالُ الدنيا، حتى نكونَ فقراءَ ولو كانَ المالُ بأيديْنا؛ ولذا جاءَ في الحديثِ القدسيِ الصحيحِ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأَتُ يَدَيْكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"(سنن الترمذي).
ولقد خابَ قومٌ تهاونُوا بصلاتِهمْ حتى ثقُلَتْ عليهِم،
فأشبَهُوا بذلكَ المنافقينَ، فتجِدُ أحدَهم تحبسُهُ الحاجةُ الدنيويةُ ساعةً أو ساعتينِ،
ولا يستطيعُ أن يصبرَ عُشرَ هذا الزمنِ للصلاةِ المكتوبةِ،
فما أعظمَ خسارتَهُ وسوءَ مآلهِ!،
وما أطولَ ندمَهُ حينَ آخِذٌ كتابَهُ بيمينهِ أو بشمالهِ!.
الصلاة في سكرات الموت