في سورة النحل التي يسميها بعض العلماء (سورة النِّعم) ذكر الله فيها نِعَمًا كثيرة يُذكِّر بها عباده ليشكروه، وذكر نعمة عجيبة جدًّا في سياق سرد بعض نِعمه على عباده؛ قال الله سبحانه في مقطع من مقاطع السورة: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64]، فذكر نعمة القرآن التي هي أعظم النعم على الإطلاق؛ ثم قال: ﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [النحل: 65]، فذكر نعمة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي؛ ثم قال: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل: 66]، ثم ذكر نعمة ثمرات النخيل والأعناب، ثم ذكر نعمة العسل الذي فيه شراب وشفاء للناس؛ ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ [النحل: 70]، ذكر نعمة الخلق ونعمة الوفاة، فالله العليم القدير أنعم على عباده بالحياة، وأنعم عليهم بالوفاة، ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]،
فالموت نعمة للعبد المؤمن،يتوفَّاه الله وينقله من الدنيا، وما فيها من تعب ومشقة إلى رحمته، والله أرحم بعباده المؤمنين من آبائهم وأمهاتهم؛
وكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حياته حين انصرف من الحج: ((اللهم كبِرت سِنِّي، وضعُفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفرِّط))، فقبضه الله بعد هذا الدعاء بأيام قليلة، تخيل لو أن عمر رضي الله عنه ما زال حيًّا إلى يومنا هذا، فستكون حياته مشقة عظيمة عليه، لكن توفاه الله إلى رحمته،
وتخيل لو أن أجدادنا ما زالوا أحياء إلى يومنا هذا، فإن في ذلك مشقة عظيمة عليهم وعلى من حولهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يس: 68].
فمن النِّعم على العبد المؤمن نعمة الوفاة، ينتقل بالموت من دار العناء والفناء إلى دار النعيم والبقاء، فقد جعل الله الدنيا دار كبَدٍ ومشقة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، وقال سبحانه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54]؛ وكما قال الشاعر:
إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَها
قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلى تَرْجُمَانِ
فالكبير تضعف قواه، ويضعف سمعه وبصره وعقله؛ وقال الشاعر الحكيم زهير بن أبي سُلمى:
سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ
ثَمَانِينَ حَوْلًا - لا أَبَا لكَ - يَسْأَمِ
فمن نِعم الله على عباده أنه يتوفَّاهم، وجعل لهم الأرض فِراشًا في حياتهم، وسَترًا بعد موتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ [المرسلات: 25، 26]، وقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾ [عبس: 21].
ولا شكَّ أن الموت مصيبةٌ كبيرةٌ للناس في خاصتهم، ويحزن الإنسان لموت أقاربه وأحبابه وأصدقائه، ولكنه رحمة وحكمة بالنسبة لتقدير الله الحكيم، وهو خير للبشرية التي جعلها الله خلائف في الأرض، يخلف بعضهم بعضًا؛ ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، والموت خير للمؤمن الراضي بقضاء الله وقدره: ((مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ))، يقول الله سبحانه: ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، وفي الحديث الصحيح: ((العَبْدُ المؤمِنُ يَسْتريحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيا وأذَاهَا إلى رحمة الله عَزَّ وجَلَّ، وَالعبدُ الفَاجِرُ يَسْتريحُ مِنْهُ العِبَادُ، وَالبِلادُ، والشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ)).
فالحمد لله على نعمة الحياة، والحمد لله على نعمة الوفاة،
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ))، وكان يقول: ((بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا))، وآخر ما قال عليه الصلاة والسلام قبل موته: ((فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى))؛ إشارة إلى قول الله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تسلــم الأيــــادي على الإنتقـــاء المميز والقيـــم
وبارك الله فيك على الطرح الرائـع وجزاك الله خيرا
لمـــا تقدمــــه من مجهــــودات طيبـــة .
واصل تميــــزك وتألقـــك ، في إنتظــــار جديـــدك
تحيـــــــاتي.
لطالما كان الموت لغزًا يخشاه الناس ويتساءلون عن حكمته، لكنه في الحقيقة جزء من النظام الإلهي المتكامل. فلو لم يكن الموت موجودًا، لبقيت الحياة بلا معنى، ولغابت عدالة الآخرة، ولتحولت الأرض إلى مكان يضج بالبؤس والملل.
🌿 الموت بوابة للراحة والخلاص: كم من مريض أنهكه الألم، وجاء الموت ليكون له راحة ورحمة! وكم من مظلوم لم ينل حقه في الدنيا، فجعل الله الموت سبيلًا للقاء العدل المطلق في الآخرة.
🕊 حكمة الله في الموت: الموت ليس نهاية، بل هو انتقال إلى حياة أخرى أبدية. يقول الله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (آل عمران: 185). فهو ليس فناءً، بل بداية لحساب عادل، يثاب فيه المحسن ويقتص من الظالم.
💭 لو لم يكن هناك موت؟! تصوّر لو لم يكن هناك موت، كيف ستكون الحياة؟! الشيخ الكبير سيظل يزداد ضعفًا وألمًا، الفقير سيبقى في بؤسه، والمجرم سيتمادى بلا خوف. لكن الله جعل الموت نعمة تضع حدًا لكل هذا، وتفتح باب العدالة الأبدية.
📖 خاتمة وتأمل: الموت ليس النهاية، بل بداية للقاء الله، وهو حق علينا جميعًا. فليكن الموت لنا تذكرة للعمل الصالح، لا للخوف واليأس. يقول النبي ﷺ: "أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت" (رواه الترمذي).
🔹 شكر وتقدير: شكرًا لك أخي الكريم على طرح هذا السؤال العميق الذي يفتح لنا آفاق التأمل والتفكر. جعله الله في ميزان حسناتك، ورزقنا جميعًا حسن الخاتمة. 🤲💙