

فدَيناهُ مِن ساداتِنا بأُلُوفِ
عليكَ سَلامُ الله وَقفًا؛ فإنَّني
أَرىٰ الموتَ وقَّاعًا بكُلِّ شَريفِ
حين طَرَقَ سمعي نَعِيُّ عالم الشِّعر المَكِين أخي الدكتور محمَّد شفيق خالد البَيطار أخذَتْني الأواخذُ، وخالَجَتْني أَحْزانٌ عِتاقٌ بما نُكِبَتْ بِهِ العربيَّةُ مِن صَدْعٍ أَنَّىٰ له أَنْ يُرْأَبَ، وثَلْمٍ أَنَّىٰ لَهُ أَنْ يُسَدَّ، وظلَّتْ بيَ ٱلأَرضُ الفَضاءُ تدورُ، وعُيُوني تفيضُ بالدَّمع السَّخيِّ المـُـنْهَمِلِ علىٰ أَخٍ أَنِيسٍ وصديقٍ نبيلٍ قُدَّ مِنَ الحُبِّ والمِسك والرَّيحان.
كيف أَكْتُبُ عنك والكتابةُ عنك كتابةٌ عن تاريخِ هٰذه الأُمَّةِ العربيَّة ٱلَّتي كانت خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَت للنَّاسِ: عقيدةً راسخةً رسوخَ ثَبِيرٍ، ولغةً ناصِعةً كلغة عثمانَ بنِ جنِّي، وفكْرًا ثاقِبًا كفِكْرِ شيخِ المعرَّةِ أبي العلاءِ الَّذي كنتَ مأْخوذًا بذكائِهِ وبَصَرِهِ بالعربيَّةِ، ورِجالًا كانوا منك مِلءَ السَّمع والبصر.
كيف أُوفي القولَ فيك وتاريخُ العربيَّة ماثلٌ أمام ناظِرَيْكَ، لا أعرفُ مِنَ الرِّجالِ مَنْ يَفري فَرْيَكَ فيه، ولَمْ يَغِبْ لحظةً عن وِجْدانِكَ اليَقْظانِ في خَفَرِ عالِمٍ ضَليعٍ نِحْريرٍ يَأْبىٰ أَنْ يخلعَ سِرْبالَ التَّواضُع الَّذي التَحَم فيه.
هل تذكرُ يا أبا عبدِ العزيز في آخِرِ مرَّةٍ مضَينا فيها إلى الجامعة سؤالي إِيَّاك أَنَّ الفرزدقَ يُسْرِفُ في نسبةِ الرِّجالِ إِلىٰ أُمَّهاتِهم، وأَنَّه قال:
هو السَّيفُ الَّذي نَصَرَ ابنَ أَرْوَىٰ بِــــــــــــهِ مـروانُ عثمـــــــانَ المصـــــــابــــــــــــا
فقلتَ: ابن أروىٰ هو سيِّدُنا عثمان، وأَرْوَىٰ بِنْتُ كُرَيْزِ بْنِ ربيعةَ بْنِ حبيبِ بْنِ عبدِ شمسٍ، وأُمُّها البيضاءُ أُمُّ حَكيمٍ تَوْءَمَةُ عَبْدِ الله بْنِ عبدِ المــُطَّلِب أَبي رسولِ الله صلَّىٰ ٱلله عليه وسلَّم، فجَدَّةُ عُثمانَ لأُمِّهِ عَمَّةُ رَسُولِ ٱللهِ.
أَيَّ ذِهْنٍ وَقَّادٍ وذاكرةٍ نابضةٍ بتُراثِ هٰذه الأُمَّةِ حَباكَ ٱللهُ؟ رجالُها وأَنسابُها وأَيَّامُها وبُلْدانُها ونقوشُها ومفاخرُها حاضِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ يحرسُها عَقْلٌ ألمعيٌّ لـمــَّاحٌ ناقِدٌ يَهْجُمُ به ظَنُّهُ علىٰ اليقين، ويَلْتَقِطُ في نَظْرَةٍ عَجْلَىٰ ما يُلْتَقَطُ عند غَيْرِهِ بعد إِكْدادِ البصَر ورَجْعِهِ كرَّتَيْن.
كَمْ مِنْ ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ العربيَّةِ كان مَثْغُورًا فسدَدتَهُ، وأحسنتَ القيامَ عليه: مِنْ منابر الجامعة إِلىٰ أدب الأطفال وما يُقَدَّمُ لهم علىٰ شاشاتِ التِّلفازِ، كم مِنْ نَصٍّ أَنيقٍ باذخٍ كتبتَ لهم تبني به سَلائقَهم، وتَشْحَذُ مواهبَهم، وتَضَعُهم فيه علىٰ المحَجَّةِ البيضاء.
كُنْتَ تغضَبُ للحقِّ، ولا تمنعُك هيبةُ النَّاسِ أَنْ تقولَ الحقَّ إِذا علمتَه، ولعَمْري ما رأيتُ مِثلكَ صفاءَ سريرةٍ ونقاءَ قَلْبٍ؛ إِذا غضب لحُرْمَةٍ انتُهِكَتْ أَوْ جهالةٍ ارتُكِبَتْ كان بحرًا هائجًا مُتلاطمَ الموج، بل كان كسماءٍ مُرْعِدةٍ حتَّىٰ إِذا عادَ الحقُّ إِلَىٰ نِصابه وحاقِّ مَوضِعه رأيتَه كنَسْمةٍ هادئةٍ في إِثرِ ماءٍ طَهُورٍ.
أَمَّا عِلْمُ الدكتور محمَّد شفيق فتَضيقُ بِهِ الصُّحُفُ، وإِنْ سُمْتَ القلمَ أَنْ يستقصيَ وجوهَ عِلْمِهِ جَمَح، أَوْ أَنْ يَسْمَحَ بها ما سَمَح، لِتكاثُرِها عليه وتدافُعِها، ونظرةٌ في ديوانِ الصَّحابيِّ حُمَيْدِ بْنِ ثورٍ الهلاليِّ الَّذي نَهَضَ بتحقيقِه تَقِفُكَ علىٰ رجلٍ عالمٍ حُذاقِيٍّ نَقَّابٍ بَصِيرٍ بالشِّعرِ وإصلاحِ ما آفَهُ مِنَ التَّصحيفِ والتَّحريف، وإِقامةِ ما انآدَ فيه أَوِ اضطربَ الكلامُ عليه، وتوثيقِ النُّقُولِ، وتخريجِ الشَّواهد، واستقصاءِ الأخبار. ثمَّ إِنَّ له مِن وراءِ ذٰلك كُلِّهِ عِلْمًا جامعًا بمصادر التُّراث العربيِّ: كتبِ السِّيرةِ والمغازي والبُلْدانِ وشروحِ الشِّعر والأنسابِ والتَّفسيرِ والاحتجاجِ وتاريخِ الرِّجالِ وفقهِ الحديثِ، وكُلِّ ما شئتَ مِنْ علوم هٰذه الأُمَّةِ وفنونِها.
ثمَّ ديوانُ أشعارِ كَلْبِ بْنِ وَبْرةَ في الجاهليَّةِ والإسلامِ نَمَطٌ عزيزُ المثالِ في الاستقراءِ والتَّحليلِ والتَّحقيقِ والضَّبْطِ والفهرسةِ، وما مِن مُشْتَغِلٍ بجَمْعِ شعرِ القبائلِ وتحقيقِهِ إِلَّا ماتحٌ برِشائِهِ قادحٌ بزَنْدِهِ لا يُدِيرُ وَجْهَهُ عنه.
أمَّا اللُّغةُ الَّتي يكتب فيها فهي مِنْ أنصَع البيانِ وأَفْصَحِهِ وأَجْوَدِهِ وأَسْيَرِهِ علىٰ مقاييس العربيَّة، لا يأتي مِن أساليبها إِلَّا العاليَ المــُحْكَمَ النَّسْجِ، ولَمْ أعرف فيمَن عرَفتُ مِنَ الرِّجال مَنْ لَهُ معرفتُهُ بعلوم الآلةِ مجتمعةً: العَروضِ والنَّحْوِ والصَّرْفِ والبلاغةِ والخطِّ والإِملاءِ؛ إِنَّهُ ميزانُ ذٰلكَ كُلِّه.
كانَ رحمه اللهُ رحمةً سابغةً آيةً في النُّصْحِ والتَّعليم يبذُلُ ذٰلك لسامعِه في سماحةٍ نادرةٍ تُغري المرءَ أَلَّا يتنكَّبَ عَنْ قَوْلِهِ، على سَخاءٍ في وَقْتِهِ يُنْهِبُهُ سائليه صغارَ الطَّلَبة وكبارَ العلماءِ، وبَشاشَةٍ يَتَطَلَّقُ لها رائيه.
وبَلَغَ مِن معرفتِه بالفارسيَّةِ أَنَّهُ تَرْجَمَ رُباعيَّات بابا طاهر العُريان، وصاغَها شِعْرًا عربيًّا خالصَ الدِّيباجةِ والماءِ، وألبسَها ثوبَ العربيَّةِ القَشِيبَ، مِنْ ذٰلك:
بَلَغْتُ مِنَ الحالِ ما يُنْتَظَرْ
فلا أَهْلَ لا مالَ لا مُسْتَقَرّْ
إِذا أَقْبَلَ الفَجرُ أُلفِيتُ حُرًّا
أُطَوِّفُ في الأَرْضِ بَحْرًا وبَرّْ
وإِنْ أَقبلَ اللَّيْلُ نِمْتُ مَكاني
وأَلقَيتُ رأْسيَ فَوْقَ الحَجَرْ
كان مَفْزَعِي إِذا غُمَّ عليَّ الشِّعْرُ وتَوَعَّرَ، فكَمْ مِنْ موضعٍ في "يتيمة الدَّهر" وتتمَّتِها ثمَّ في "ديوان الفرزدق" أَصْلَحَهُ لي حتَّىٰ بَدا كفَلَقِ الصُّبْحِ أبلجَ، وكَأَنَّهُ مُحَدَّثٌ بما يَقُولُ، قَدْ أُوتيَ ٱلْحِكْمَةَ في إِصلاحِ الشِّعرِ ورَدِّ المـُـزالِ إِلَىٰ وَجْهِهِ. ثُمَّ تَراهُ علىٰ إِجلالِهِ رجالَ العربيَّةِ ونصُوصَها العِتاقَ الأُوَلَ، يُناقِشُ ويُفاتِشُ ما رآهُ حادَ عَنِ الجادَّةِ، يُسَدِّدُ ذٰلك في رِفْقٍ ولِيْنٍ، جَذَعَ ٱلْبَصِيرَةِ قارِحَ ٱلْإِقْدامِ، سالِكًا النَّمَطَ الأوسَط:
فقَدْناكَ فِقْدانَ المَصابيحِ في الدُّجىٰ
إِذا ضَلَّ عَنْ قَصْدِ الهِدايةِ مَقْصَدُ
وماتَتْ بمَوتِ العلْمِ مِنكَ قلوبُنا
وكنتَ حَياها لَمْ تَزَلْ بكَ تَرْشُدُ
لِتَبْكِكَ أَبْكارُ المَعاني وعُوْنُها
وغُرُّ القَوافي حين تُروىٰ وتُنْشَدُ
أَمَّا عِلْمُهُ بالعَروض والقوافي فإنَّه لا يُشَقُّ لَهُ غُبارٌ، ولو كان في زَمَنِ الخليل بْنِ أحمد لَنافسَه في هٰذه الصِّناعةِ واستنبطَ ما استنبطَهُ بجَوْدَةِ عَقْلِهِ وقُوَّةِ قريحتِهِ، ونَهَضَ بٱستِيلادِ مُصطلحاتِهِ، ولا يُعْلَمُ أَحَدٌ في زمانِنا لَهُ ما للدكتور محمَّد شفيق مِن حِذْقِ هٰذه الصِّناعةِ وانتهاءِ الرِّياسةِ إِليه فيها:
لأَنْشَرْتَ بالعِلْمِ الخَليلَ فخِلْتُنا
نُشاهِدُهُ إِنْ ضَمَّنا مِنكَ مَشْهَدُ
وكُنْتَ إِمامًا في الرِّواياتِ كُلِّها
يُضافُ إِليكَ الصِّدقُ فيها ويُسْنَدُ
توحَّدْتَ بالآدابِ والعِلْمِ والحِجا
فأَنْتَ بِحُسْنِ الذِّكْرِ منها مُوَحَّدُ
وأَمَّا قراءةُ النُّقوش الصَّفائيَّةِ فكانَ فيها ذا صَوْلاتٍ وجَوْلاتٍ وتحقيقاتٍ تُسْقِطُ كَثِيرًا مِنْ دَعاوىٰ المــُستشرِقين، وتُزِيلُ عَنِ النُّصوصِ كثيرًا مِنَ الحَيْفِ الَّذي سِيْمَتْهُ.
أمَّا خَلائِقُهُ الغُرُّ فكانتْ شريعةَ أُمَّةٍ؛ فأَوَّلُها التَّواضُعُ الَّذي كانَ سِرْبالًا لَمْ يُلْقِهِ عنه حَياتَهُ، وهو مِثالُ الشَّجرةِ الباسقةِ المـُـثْقَلَةِ بالثَّمَرِ النَّضيجِ الطَّيِّبِ الشَّهِيِّ الجَنَىٰ لا تَزْدادُ إِلَّا انحناءً نحوَ الأَرْضِ مِن كثرةِ الخيرِ الَّذي يُجَلِّلُها والخُضرةِ الَّتي تَكْسُوها.
وثانيها العَفافُ والأَنَفَةُ والزُّهْدُ في الضَّجِيج والجَلَبةِ؛ فقد كانَ يَأبىٰ أَنْ يضعَ قَدَمَهُ في مواضعَ قَدْ مُرِّغَتْ فيها الجِباهُ، وهو يُؤْثِرُ العملَ بِصَمْتٍ، وصَمْتُهُ لا يلبَثُ أَنْ يتضوَّعَ أَرِيجُهُ، فليسَ بوُسعها أَلَّا تفوحَ مَزارعُ الدُّرَّاقِ!
وقَدْ كان غَرِيبًا في هٰذِهِ الدُّنيا؛ خَرَجَ مِنها كما دَخَلَ يسعىٰ سَعْيَ الكَفاف، وقَدْ بَشَّرَهُ النَّبيُّ صلَّىٰ ٱللهُ عليه وسلَّم: طُوبىٰ للغُرباء.
وثالثُها الحُبُّ الَّذي بَدا كعَيْنٍ نَضَّاخَةٍ يتفجَّرُ مِنها الماءُ تَفِيضُ علىٰ ما حولَها، ولا تُبالي بمَنْ يَستَقي مِن مائها العَذْبِ الطَّهُورِ شِرْعَةَ الصَّالحين الأنقياءِ الأصفياءِ الأطهارِ، وقَدْ تجلَّىٰ هٰذا الحُبُّ في إِحساسِهِ الغامر بالفُقراءِ والمَطْحُونينَ والمـُـخَرَّبَةِ نفوسُهم يتعاهدُهم ويسعىٰ لهم ويَبْذُلُ مِن أجلِهم ما استطاع، ويُغْرِي مَنْ له عليهم دالَّةٌ بالإنفاقِ، ويترقَّقُ قلوبَهم أَنْ تلينَ لهٰؤلاءِ الَّذين نهشَتهُم أنيابُ هٰذه الحربِ الغَشُومِ، أَوْ فَتَكَتْ بهم رَزايا الدَّهر العَضُوض. ولستُ أذكُرُ أَنَّهُ أَخْلىٰ سيَّارتَهُ يَوْمًا مِن راكِبٍ واثنين وثلاثةٍ ونحن نمضي مِنَ المُعَضَّمِيَّة إلىٰ الجامعة لا يلتفتُ إِلىٰ هُوِيَّةِ مَنْ يُرْكِبُه صغيرًا أَمْ كبيرًا، رجُلًا أَمِ امرأةً، مَدَنِيًّا أَمْ عسكريًّا، ثُمَّ يستديرُ إِليهم ويعتذِرُ مِنهم بِخَفَرٍ: أنَّ مَقْصَدَنا كلِّيَّةُ الآداب.
ورابعُها حُسْنُ الظَّنِّ، دستورُهُ في ذٰلك قَوْلُ سيِّدِنا عُمَرَ بْنِ الخطَّاب: لا تحمِلْ فِعْلَ أخيكَ علىٰ القبيح ما وجَدْتَ لَهُ في الحَسَنِ مَذْهَبًا. ولهٰذا ما تحلَّقَ النَّاسُ حولَه، يختَصِمونَ إِلَيه، ويلتمِسُونَ عندَه إِنصافَهم، ويبثُّونَه شَكواهم، ولستَ ترىٰ رجُلًا في قسم اللُّغة العربيَّة يُجْمِعُ النَّاسُ علىٰ حُبِّهِ وعَدْلِهِ وجَوْدَةِ رَأْيِهِ كما يُجمِعون عليه، فهو نصيرُ المظلومِ، ورادعٌ للظَّالم بالحُسْنىٰ، كان حُبُّ الخَيْرِ للنَّاسِ دَيْدَنَهُ وهِجِّيراهُ وشريعةً له لا يَبْغِي عنها حِوَلًا.
وخامسُها بُعْدُ النَّظَرِ وإِقْصاءُ حُظُوظِ النَّفْسِ الَّتي تُحِبُّ الاستِحواذَ وامتلاكَ الأشياءِ وأَنَّها إِلَىٰ بَقاءٍ سَرْمَدِيٍّ لا يَنْفَدُ، تَرَىٰ ذٰلكَ في كثيرٍ مِن سُلُوكِهِ، فهو سَيِّدُ الأدبِ الجاهليِّ في جامعةِ دمشقَ وأُستاذُهُ، انتخَبَ مُعِيدَيْنِ حاذِقَيْنِ وأَشْرَفَ عليهما، ودَرَّبَهما على وُلوجِ مَسالِكِهِ وذلَّلَ لهما عَقابيلَهُ، وأَنْهَجَ لَهُما السَّبيلَ حتَّىٰ لَحُبَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَهُما المـُـقَرَّرَ، وجَعَلَ لَهُ فيه حِصَّةً إِثرائيَّةً لا علاماتِ لها، مُؤْمِنًا أَنَّ هٰذِهِ رِسالةٌ حضاريَّةٌ تُسَلِّمُها أَجيالٌ إِلَىٰ أجيالٍ، واصطَنعَ دليلًا شاملًا فيه عُصارَةُ خِبرَتِهِ في مُراقبة برامج الأطفال وإِصلاحِها والتدقيقِ فيها يَعْتَصِمُ بِهِ مَنْ يَحْمِلُ الرَّايةَ مِنْ بَعْدِهِ.
كانَ نَفُورًا مِنَ النَّفْسِ الكَذوبِ الَّتي تُزَيِّنُ لصاحِبِها طُولَ الأَمَلِ، وأَنَّ الأَجَلَ مُتَراخٍ بعيدٌ. ترىٰ ذٰلك ساطِعًا في سيرتِهِ وسُنَّتِهِ في وَقْتٍ تَرَىٰ جَماجِمَ أُخَرَ تَتَدافَعُ علىٰ المكاسِب والمناصِب، يُؤَجِّجُها غَرِيزَةُ حُبِّ الامتِلاكِ والأَثَرَةُ والطَّوافُ حولَ الذَّاتِ ونِشْدانُ الخُلُود:
شَهِدْنا علىٰ ٱلأيَّامِ أَنَّ سُرورَها
غُرُورٌ كما كُنَّا بِفَضْلِكَ نَشْهَدُ
علىٰ أَيِّ شَيْءٍ مِنكَ تَأْسىٰ إِذا جَرَتْ
مَحاسِنُ وَصْفٍ بادِئاتٌ وعُوَّدُ
علىٰ عِلْمِكَ ٱلوارِي ٱلزِّنادِ إِذا غَدا
زِنادُ امرِئٍ في عِلْمِهِ وَهْوَ مُصْلِدُ
وأَخْلاقِكَ ٱلغُرِّ ٱلَّتي لو تَجَسَّدَتْ
لَكانَتْ نُجُومَ ٱلسَّعْدِ حينَ تُجَسَّدُ
علىٰ رَأْيِكَ ٱلماضي ٱلمُضِيْءِ ٱلَّذي بِهِ
يُفَضُّ رِتاجُ ٱلخَطْبِ وٱلخَطْبُ مُؤْصَدُ
أيُّها ٱلصَّديقُ ٱلأَغَرُّ، أَيُّها ٱلحبيبُ ٱلغالي
كنَّا نحلُمُ بِزَمانٍ مِنْ عَسَلٍ وماءٍ يُلْقِي عَنْ كواهلِنا بَعْضًا مِن ساعاتِ العَمَلِ الطِّوالِ، لِنخلوَ بنفوسِنا، ونقطِفَ وردًا مِن بُستانِ العَيشِ الخَفِيض، لقد كنتَ جبَّارًا يا أبا عَبْدِ العَزيز، كلَّما رأيتُك مُكِبًّا علىٰ تلك الآلةِ السَّوداءِ الَّتي نهبَتْ قِطعةً مِن عافيَتِكَ رجوتُكَ أَنْ تَرْفُقَ بِنَفْسِكَ، فكُنْتَ تُجيبُ بِإيمانِ أَصحابِ الرِّسالاتِ: إِنَّهُ رِزقُ أَولادي!
لَكَمْ تمنَّيتُ أَنْ تكونَ والِدي، فأحمِلَ عنكَ بعضَ ما يَؤُودُكَ حَمْلُهُ، وقد قُلْتُ يومًا لِنَجْلِكَ عَمْرٍو وأنا أَنتظرُكَ وأُحدِّثُ وَلدَك بِسَجاياكَ البِيْض: يا عَمرُو، ليتَ لي أبًا كأبيك!
ما أكثرَ ما تعلَّمتُ مِنْكَ مِنَ اليومِ الأوَّلِ الَّذي عَرَفْتُكَ فيه إِلىٰ أَنِ اصطَفاكَ اللهُ إِلىٰ جوارِهِ، تعلَّمْتُ صلابةَ الموقفِ في الحقِّ، لا تأخذُكَ في اللهِ لومةُ لائمٍ، وحُبَّ دمشقَ والتَّجذُّرَ في تُرابِها، وقد قال لك بعضُ زملائنا المجمعيِّينَ يومًا يدعُوك أَنْ تتسَنَّمَ منصِبَ المدير العامِّ لمعهد المخطوطات العربيَّة بالقاهرة، فأَجَبْتَهُ بِعَزيمةٍ لا تَلِين، وثقةٍ كلُّها يَقِين: دمشقُ أُمِّي، وقاسِيُونُ أبي، لن أبرحَ دمشق!
طاعنْتَ دَهْرَكَ الخَؤُونَ، فما لانَتْ لكَ قناةٌ، ولا فُلَّ مِنْكَ عَزْمٌ، فتعلَّمْتُ مِنْكَ القَبْضَ علىٰ جَمْر الصَّبْرِ، وأَنَّ المقاصِدَ الكِبارَ لا تكونُ دون تجشُّمِ الصِّعابِ، وأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بالنَّاسِ مَجْلَبَةٌ لِمَحبَّتِهِم، وأَنَّ التَّرفُّعَ عَنِ الصَّغائرِ والسَّفاسِفِ مِن أَماراتِ الألبَّاء.
أيُّها المــَجْبُولُ عَلَى الرَّحمةِ وحُبِّ النَّاسِ
تعلَّمْتُ مِنْكَ الاجتهادَ في التِماسِ أوجاعِ الفقراءِ وبَلْسَمَةِ جِراحِهِم، وأَنَّ الكلامَ في الخيرِ كلِّهِ أفضلُ مِنَ الصَّمْتِ، وأَنَّ الصَّمْتَ في الشَّرِّ كُلِّهِ أَفْضَلُ مِنَ الكلام، وأَنَّ ميزانَ الرِّجالِ عمَلُهُم وصِدقُهُم، وأَنَّ العربيَّةَ أُمُّنا الَّتي تَسْتَوْجِبُ مِنَّا بِرَّها، أَفَيَبْخَلُ المرءُ في بِرِّ أُمِّهِ؟ إِلَىٰ دُرُوسٍ وعِظاتٍ كلَّما حاوَلتُ مكاثرَتَها وجدْتُ نفسي مَكْثُورًا.
سيَذْكُرُكَ طُلَّابُكَ ومُحِبُّوكَ وأَهْلُوكَ زمانًا يا أبا عبدِ العزيز، أَمَّا قلبي فيَمينَ اللهِ لن يَنْساك، ولم يَزَلْ لساني رَطْبًا بِذِكْرِ سَجاياك:
فما مِنْكَ مُعْتاضٌ ولا عَنْكَ سَلْوَةٌ
نَظيرُكَ مَعدومٌ وحُزْنِي مُؤَبَّدُ
عليكَ سَلامُ اللهِ ما ذَرَّ شارِقٌ
وغَرَّدَ في الأَيْكِ الحَمامُ المُغَرِّدُ
والسَّلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه،،،
مُعَضَّمِيَّة الشَّام حَرَسَها اللهُ مِنَ الآفات.
19 رجب 1446هـ.
19 كانون الثَّاني 2025م.
وكَتَبَهُ
محمَّد عبد الله قاسم
الدكتور محمد شفيق البَيطار رحمه الله إلى اليسار
وكاتب المقالة الدكتور محمد عبد الله قاسم إلى اليمين
لمشاهدة الكلمة مصوَّرة مرئيَّة
المصدر : شبكة الألوكة