الله لطيف بعباده.. عبادة الشكوى وماذا يخبئ لنا القدر!
الحمد لله مَولانا، والصلاة والسلام على مُصطَفانا.
وبعد:
الله لطيف بعباده:
قال الله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، وقال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100].
قيل: اللطيف هو: البَرُّ بعباده، الذي يَلطُف بهم مِن حيث لا يعلمون، ويُسبِّب لهم مصالحهم مِن حيث لا يحتَسِبون.
وقيل: اللطيف هو: الذي يُوصل إليك أَرَبَك - أي: حاجتك - في رفق.
مظاهر لطف الله بعباده:
ومن مظاهر لطفه تعالى:
لطفه بأوليائه حتى عرفوه، ولطفه بأعدائه لمَّا جحدوه.
لطفه بنشْر المناقب، ولطفه بستْر المثالب.
لطفه بقبول القليل، وبذْل الجزيل.
لطفه برحمة مَن لا يَرحم نفسَه.
رؤية اللطف:
ولا يرى لُطْفَ اللهِ به إلا مَن أحسنَ النظرَ إلى حكمته وما قدَّره تعالى؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي اللهُ لمؤمنٍ قضاءً إلا كان خيرًا له))؛ رواه أحمد وصحَّحه الألباني، ولفظه عند مسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمْره كله له خير)).
شيخ الإسلام ورؤية اللطف:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (كلُّ مَن وافَق الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم في أمْره فله نصيب مِن قوله: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]؛ فإنَّ المعيَّة المتضمِّنة للنصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة، وهذا قد دَلَّ عليه القرآنُ، وقد رأينا مِن ذلك وجرَّبْنا ما يطُول وصفُه). اهـ.
وهذا الكلام كان قد ضمَّنه رحمه الله رسالته إلى أصحابه مِن السجن بالإسكندرية! وقد افتَتَحها بقوله: (فإني - والله العظيم الذي لا إله إلا هو - في نِعَمٍ مِن الله ما رأيتُ مثلها في عمري كله، وقد فتح الله سبحانه وتعالى مِن أبواب فضله ونعمته، وخزائن جُودِه ورحمته ما لم يكُن بالبال، ولا يدُور في الخيال، هذا، ويَعرِف بعضَها بالذوق مَن له نصيبٌ في معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان، وما هو مطلوبٌ مِن الأوَّلين والآخِرين مِن العِلم والإيمان، فإنَّ اللذَّة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكنُ التعبيرُ عنه، إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به، وانفِتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، وقد قال بعض الشيوخ: (لقد كنتُ في حالٍ أقول فيها: إنْ كان أهلُ الجَنَّة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيِّب)، وقال آخر: (لَتَمُرُّ على القلب أوقات يرقص فيها طرَبًا، وليس في الدنيا ما يُشبِه نعيم الآخرة، إلا نعيم الإيمان والمعرفة)؛ ولهذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((أرِحْنا بالصلاة يا بلال))، ولا يقول: أرِحْنا منها، كما يقول مَن تَثقُل عليه الصلاة؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، والخشوع: الخضوع لله تعالى والسُّكون والطُّمأنينة إليه بالقلب والجوارح، وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((حُبِّب إليَّ مِن دنياكم النساء والطِّيب))، ثم يقول: ((وجُعِلَتْ قرَّة عيني في الصلاة))...) إلى أن قال رحمه الله: (وليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامَّة إلا في محبَّة الله والتقرُّب إليه بما يحبُّه، ولا تكون محبَّته إلا بالإعراض عن كلِّ محبوب سِواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، وهي ملَّة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله عليهم أجمعين). اهـ (انظر: رسائل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى).
وقال عنه تلميذُه ابن القيِّم رحمه الله تعالى في "الوابل الصيِّب": (سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة قدَّس الله روحه يقول: إنَّ في الدنيا جنَّةً مَن لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة، وقال لي مرَّة: ما يَصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري، إنْ رحتُ فهي معي لا تُفارِقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلتُ ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكرَ هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تَسبَّبوا لي فيه مِن الخير، ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله، وقال لي مرَّة: المحبوس مَن حبَسَه قلبُه عن ربِّه تعالى والمأسور مَن أسَرَه هواه، ولَمَّا دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13]، وعَلِمَ اللهُ ما رأيتُ أحدًا أطيبَ عيشًا منه قطُّ، مع كلِّ ما كان فيه مِن ضِيق العيش وخلاف الرفاهِيَة والنَّعِيم؛ بل ضدها، ومع ما كان فيه مِن التهديد والإرهاق، وهو مع ذلك مِن أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تَلُوح نضرةُ النعيم على وجهه، وكُنَّا إذا اشتَدَّ بنا الخوفُ وساءَتْ مِنَّا الظنون، وضاقَتْ بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، ويَنقَلِب انشراحًا وقوَّة، ويقينًا وطمأنينة، فسبحان مَن أشهد عباده جنَّته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم مِن رَوحها ونسيمها وطِيبها ما استفرغ قُواهم لطلبها والمسابَقة إليها).
وكان بعض العارِفين يقول: (لو عَلِمَ الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه (مِن السعادة) لَجَالَدُونا عليها بالسُّيوف)، وقال آخر: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل: وما أطيَب ما فيها؟ قال: محبَّة الله ومعرفته وذكْره، أو نحو هذا). اهـ.
لله دَرُّهم، وعليه أجرُهم.
عبادة الشكوى بين الهجر والتقصير:
نعم، فالشكوى إلى الله عزَّ وجلَّ عبادة المبْتلَيْنَ المكروبين، البائِسين المحزونين؛ قال الله عزَّ وجلَّ على لسان نبيِّه يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، وقال عن نبيِّه موسى عليه السلام: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، وقال عن نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ [نوح: 5]، وقال عن أيوب عليه السلام: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وقال سيِّد ولد آدم يوم القيامة صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اللهمَّ إليك أشكو ضعفَ قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس...))؛ (رواه الطبراني، وضعَّفه الألباني، وقال ابن القيِّم: عليه نور النبوَّة).
قال ابن القيِّم رحمه الله في كتابه "عُدَّة الصابرين": (فالشكوى إليه سبحانه لا تُنافِي الصبر الجميل، بل إعْراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة، وجعْل الشكوى إليه وحدَه هو الصبر، والله تعالى يبتَلِي عبده ليسمع شكواه وتضرُّعَه ودعاءَه، وقد ذَمَّ سبحانه مَن لم يتضرَّع إليه، وهو تعالى يَمقُت مَن يَشكُوه إلى خلْقه، ويحبُّ مَن يشكو ما به إليه، وقيل لبعضهم: كيف تشتَكِي إليه ما ليس يخفَى عليه؟ فقال: ربي يرضى ذُلَّ العبد إليه). اهـ.
ماذا يخبِّئ لنا القدَر؟
هذا ولد، وهذا مرض، وهذا مات، وماذا يخبِّئ لنا القدر؟ إنَّني كلَّما تدبَّرتُ هذا السؤال، هان عليَّ الكثير، وازددتُ فقرًا على فقري، وقد قرَّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((إني رسول الله ولا أدري ما يُفعَل بي - أو قال: ما يفعل الله بي!)).
يا ألله! رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يخرجُ مِن فِيه إلا الصدق، ويقول: ((لا أدري))، ومع ذلك - وعلى استحياء - إنَّا لنرجو الخير ونُحسِن الظنَّ بالربِّ القائل: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي...))، ربٌّ أدخل الجَنَّةَ بَغِيًّا سَقَتْ كلبًا، ربٌّ يَرضَى مِن عبده أن يأكُل الأكْلة فيشكره عليها، ويشرب الشَّربة فيشكره عليها، أليس هذا يُسلينا؟ ولِمَ لا؟ ونحن نحبُّه، ونَسِير على نهج نبيِّه، ونسعى لإعلاء كلمته، كلمات أردتُ أن أسلِّي نفسي بها وإيَّاك في زمان الصبر، هكذا سمَّاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: ((إنَّ مِن ورائكم زمان صبر، للمُتمسِّك فيه أجر خمسين شهيدًا منكم))؛ (رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني).
نعم، هو زمان القبض على الجمر وتمنِّي الموت.
ربَّنا لك الحمد كله.
ربَّنا إنَّا ظلمْنا أنفسَنا ظلمًا كثيرًا عظيمًا، وإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، ربَّنا اغفر لنا مغفرةً مِن عندك، وارحمنا إنَّك أنتَ الغفور الرحيم، ربَّنا آتِنا مِن لدنك رحمة، وهيِّئ لنا مِن أمْرنا رشدًا، اللهمَّ يا وليَّ الإسلام وأهله مَسِّكنا بالإسلام حتى نلقاك، ربَّنا اربطْ على قلوبنا وتوفَّنا مسلمين، آمين، آمين، آمين.
وصلَّى الله على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهم، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
https://www.alukah.net/