في قلب لغتنا العربية الزاخرة بالأسرار البلاغية والجمالية، نجد أن "كم الخبرية" هي إحدى الأدوات اللغوية التي تحمل في طياتها أبعادًا متعددة ومعانٍ قد تكون غامضة، لكنها في ذات الوقت تنبض بالقوة والجمال. فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل تُعدُّ "كم الخبرية" أسلوبًا خبريًا أم إنشائيًا؟ هو تساؤل يستدعي منا غوصًا عميقًا في عوالم اللغة العربية، حيث التوازن بين الخبرية و الإنشائية ليس سهلًا، بل يشبه ذلك السكون الهش الذي بين الضوء والظل، حيث تنتمي بعض التعبيرات إلى عالم الخبر والواقع، بينما تندمج بعضها الآخر في عالم الإنشاء والدعوة.
إن "كم الخبرية" هي في جوهرها أداة لغوية تُستخدم للتعبير عن الكثرة أو العدد، فتأتي لبيان كم من الأشياء أو الأفراد التي يُشير إليها المتحدث أو الكاتب. وعندما نُسائل هذه الأداة اللغوية عن ماهيتها، نجد أنها لا تسعى إلى إطلاق فعل أو طلب، بل هي خبر بحت يتحدث عن واقع، وإن كان هذا الواقع غالبًا ما يحمل في داخله شيئًا من التقدير أو الاستفهام في معناه العميق. على سبيل المثال، قولنا "كم هو جميل هذا اليوم!"، هنا، تظل "كم" خبرية، لأننا نتحدث عن عدد شيء ما أو عن تقدير شيء قائم، ولكن في ذات الوقت، ليس هذا أسلوبًا خبريًا صرفًا بمعناه التقليدي، لأنه قد يشتمل على انفعالات.
وفي ذات السياق، إذا حاولنا أن نتتبع طبيعة الأسلوب الذي يُستخدم فيه "كم الخبرية"، فإننا قد نصل إلى استنتاج مؤداه أن "كم" لا تُشكل بمفردها جملة خبرية تقليدية، بل تُدخل القارئ أو السامع في حالة من التأمل والتفاعل مع المعنى، بحيث تختلط الخبرة بالحالة الوجدانية للمتحدث. ففي بعض الأحيان، نجدها موجهة إلى القيم الإنسانية مثل الإعجاب، التفاؤل، أو التقدير، مما يُضيف إليها صبغة إنشائية، تُحول الجملة الخبرية إلى نوع من الأدوات البلاغية التي تحمل في طياتها تلميحات من العاطفة والتفاعل. قد لا يُرى في ذلك الفعل المُستخدم صفة الطلب أو النفي بشكل صارم كما في الأساليب الإنشائية المعتادة، لكن القدرة على التأثير في المتلقي تبقى موجودة، على عكس الجملة الخبرية البحتة التي لا تترك مجالًا للانفعال أو التحفيز.
إذا تأملنا في هذه المقارنة بين الخبرية والإنشائية، قد نلحظ أن "كم الخبرية" تجمع بين الجانبين؛ فهي خبرية من حيث أنها تتحدث عن أمرٍ واقع وتُقدم معلومة حول الكثرة، لكنها في الوقت ذاته إنشائية من خلال التأثير الانفعالي الذي قد تثيره في المتلقي، حيث تختلط الحقيقة بالتقدير، وتَفقد الجملة سياقها الجاف لتكتسب لونًا من البلاغة والانفعال. فالجمل الخبرية البحتة تتطلب وقوفًا عند الأرقام والحقائق، بينما قد تجد في "كم" الخبرية عنصرًا يُثري التفاعل النفسي والفكري للمتلقي.
إذن، يمكن القول أن "كم الخبرية" هي في الحقيقة تلك الحدود الرقيقة التي تفصل بين أسلوبين متداخلين، حيث تنشأ من رحم الخبر ولكنها تُعطي انطباعًا قويًا من الإنشاء بفضل ما تحمله من دلالة كثافة، أو شدة، أو قدرة على التأثير في التلقي. وبينما هي ليست أسلوبًا إنشائيًا بالمعنى التقليدي، فإنها تثير نقاشًا عاطفيًا يجعل المتلقي يشعر بمدى أهمية أو ضخامة الأشياء التي يُشار إليها.
في الختام، لا أستطيع إلا أن أشكر العضو الكريم الذي طرح هذا السؤال الذي يستحق التأمل العميق، وأشكر المراقبة الفاضلة والإدارة المحترمة على الاهتمام بمثل هذه الموضوعات التي تفتح آفاقًا من الفهم المعرفي. إن هذه الحوارات تعتبر لبنة أساسية لبناء الفكر والنقد اللغوي، الذي يُثري كل من يتفاعل معه. وأود أن أطرح سؤالًا نقاشيًا أخيرًا: هل يمكن أن تُعتبر "كم الخبرية" أسلوبًا لغويًا مستقلًا بحد ذاته، أم أنها مجرد صورة من صور التداخل بين الأساليب الخبرية والإنشائية؟
#اللغة_العربية
#الأسلوب_اللغوي
#البلاغة_العربية