إعراب القرآن الكريم - سورة يونس، إعراب الآيات (36-38)
إن إعراب آيات القرآن الكريم يُعدُّ من أسمى ميادين العلم في اللغة العربية، فكما أنَّ القرآن مصدر هدايةٍ وتوجيهٍ للمسلمين، فإنَّ فهم معانيه من خلال إعرابه يتطلب دقةً وعمقًا في التفسير. وإذا نظرنا إلى الآيات (36-38) من سورة يونس، نجد أنفسنا أمام مثال بليغ على تفاعل اللغة مع المعنى، حيث تكشف هذه الآيات عن نقاش فلسفي وعقائدي عميق حول طبيعة المعرفة البشرية، ورفض العقل البشري لإدراك الغيبيات، وكيفية انغلاق بعض النفوس عن الحقائق الثابتة.
تبدأ الآيات بالحديث عن أولئك الذين كذبوا بالحق وأعرضوا عنه، فالأمر لا يتعلق بمجرد قولٍ جامد، بل بحالةٍ من الإنكار المتواصل للعقول التي لا تستطيع أن تفتح أبوابها للمعرفة إلا إذا كانت توافق هواها. فالآية (36) تبدأ بقوله تعالى: "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِّنْ رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ"، في هذا السياق، نجد أنَّ "ما" في قوله تعالى "مَا يَأْتِيهِمْ" اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من الضمير في "يَأْتِيهِمْ"، و**"مِنْ ذِكْرٍ"** جار ومجرور متعلق بيأْتِيهِمْ، بينما "مُّحْدَثٍ" صفة لــ "ذِكْرٍ". وهنا يعكس السياق مدى استهزاء هؤلاء الذين تاهت عقولهم عن الاستماع إلى الحقائق، بل صاروا يطوّعون الآيات ويديرون أذهانهم عنها وكأنها مجرد زينة فكرية لا تمس الواقع.
أما في الآية (37)، فإنَّ قوله تعالى: "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ" يقودنا إلى سؤال فلسفي عن الإيمان ذاته وكيفية تأثيره على حركة الحياة. ف**"به"** في قوله: "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ" يعود على الذكر، أي أنَّ هؤلاء الذين كذبوا يعرضون عن الإيمان بالحق في كل مرة يُعرض عليهم فيه، وهو تكرار لفعل الإعراض عن الحقائق الإلهية. وهنا يتجلى المفهوم الأعمق للآية: الإيمان لا يُدرك بعقولٍ مغلقة، بل بحالةٍ من الانفتاح على ما يُعطى من الله.
أما الآية (38) فتأتي لتُوضح مصير من يعرض عن هذا الحق، فتقول: "فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهُ"، ليبين القرآن الكريم أنَّ هؤلاء لا يواجهون فحسب عواقب التكذيب، بل يواجهون "الشك" الذي يعصف بهم ويُعتم على قلوبهم، فالفعل "فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ" هو جملة اسمية في محل نصب مفعولٍ لأجله، أي أنَّ الشك هو ما يعيقهم عن الإيمان ويجعلهم في حالة من الحيرة والاضطراب العقلي.
إنَّ إعراب هذه الآيات لا ينتهي عند التفاصيل اللغوية الدقيقة فحسب، بل يمتد ليُفتح لنا أبوابًا من الفهم التأويلي الذي يربط بين النصوص القرآنية وبين الواقع البشري المعاصر. فلا تكمن أهمية الإعراب في مجرد فحص الجمل وفقًا لقواعد النحو، بل في تقديمها كأداةٍ لفهم أعمق لما يحدث في النفوس التي تميل إلى الجحود، وكيف أنَّ القلوب التي يغلقها الشك تصبح محلاً للفتنة والضياع.
لقد كان لهذه الآيات تأثير بالغ على طريقة فهمنا للرفض البشري للحقائق الكبرى في عالمنا المعاصر، الذي يعج بالشبهات والشكوك. وقد أكدت هذه الآيات أنَّ من يغلق قلبه عن الإيمان يصير في شك دائم لا يبارحه، وأنَّ هذه الحالة ليست إلا ثمرة من ثمرات الاستجابة للأهواء.
وفي الختام، أتوجه بجزيل الشكر والتقدير للعضو الكريم الذي طرح هذا الموضوع الهام والذي يعكس عمقًا في البحث في التفاسير الإعرابية للقرآن الكريم، كما أخص بالشكر للمراقبة الفاضلة التي تساهم في ترتيب وتنظيم هذا النقاش المثري، ولا ننسى شكر الإدارة الكريمة التي توفر لنا هذا المنتدى المبارك للحديث عن مثل هذه المواضيع التي تساهم في إثراء الفكر وتوسيع المدارك.
وفي الختام، يظل السؤال الذي نطرحه للنقاش: كيف يمكن للإنسان أن يتجاوز حالة الشك التي تساوره في مواجهة الحقائق الثابتة، خاصة في عصرٍ تعمّه الشبهات؟
#إعراب_القرآن
#سورة_يونس
#فهم_الآيات