سورةُ القَلَمِ
غريب الكلمات:
خَاشِعَةً: أي: ذليلةً خاضِعةً، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التَّطامُنِ .
تَرْهَقُهُمْ: أي: تَغشاهم وتَلحَقُهم، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ .
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ: أي: سنأخُذُهم قليلًا قليلًا، درجةً فدرجةً، ولا نُباغِتُهم، وأصلُه مِنَ الدَّرْجِ: وهو لفُّ الشَّيءِ وطَيُّه، والاستِدراجُ هو طَيُّ مَنزلةٍ بعْدَ مَنزلةٍ، ويجوزُ أن يكونَ مِنَ الدَّرَجةِ، فيكونَ معنى الاستدراجِ في الأمرِ: أن يُحَطَّ دَرَجةً بعدَ دَرَجةٍ حتَّى يَنتهيَ إلى مَقصودِه .
وَأُمْلِي لَهُمْ: أي: أؤَخِّرُهم وأُمْهِلُهم؛ وأطيلُ لهم المدَّةَ، وأترُكُهم مُلاوةً مِن الدَّهْرِ، أي: حِينًا مِن الدَّهرِ، والمُلاوةُ المُدَّةُ مِن الدَّهرِ، وأصلُ (ملي): الزَّمَنُ الطَّويلُ .
مَتِينٌ: أي: قَويٌّ شَديدٌ، وأصلُ (متن): يدُلُّ على صَلابةٍ في الشَّيءِ .
مَغْرَمٍ: أي: غُرمٍ، وهو: ما يَنوبُ الإنسانَ في مالِه مِن ضَرَرٍ لغَيرِ جِنايةٍ منه أو خيانةٍ، والغرمُ أداءُ كلِّ شيءٍ يَلزَمُ، وأصلُ (غرم): يدُلُّ على مُلازَمةٍ .
مُثْقَلُونَ: أي: مُجهَدونَ لِما كلَّفْتَهم به، وأصلُ (ثقل): يدُلُّ على ضِدِّ الخِفَّةِ .
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى مبينًا جانبًا مِن مَشاهِدِ يومِ القيامةِ: يَوْمَ يَكشِفُ الرَّبُّ سُبحانَه وتعالى عن ساقِه الكريمةِ يومَ القِيامةِ، ويُدْعَون إلى السُّجودِ لله تعالى فلا يَستطيعونَ، خاضِعةً ساكِنةً أبصارُهم تَغشاهم ذِلَّةٌ، وقد كانوا في الدُّنيا يُؤمَرونَ بالسُّجودِ للهِ، وهم أصِحَّاءُ مُعافَونَ!
ثمَّ يقولُ تعالى مهدِّدًا: فدَعْني -يا مُحمَّدُ- ومَن يُكذِّبونَ بهذا القُرآنِ، ولا تَستَعجِلْ هَلاكَهم، سنُقَرِّبُهم مِن هَلاكِهم شَيئًا فشَيئًا مِن حيثُ لا يَعلَمونَ، وأُمهِلُهم ولا أُعاجِلُهم بالعُقوبةِ؛ إنَّ مَكرِي وكَيدِي بهم قَويٌّ شَديدٌ!
ثمَّ يُبطِلُ الله تعالى حُجَجَهم، فيقولُ: أم تَسألُ قَومَك -يا مُحمَّدُ- مالًا لإبلاغِهم دعوتي، فيُثقِلُهم ويَشُقُّ عليهم ذلك، فلا يَستجيبونَ لك؟!
أم عِندَ أولئك المُشرِكينَ عِلمُ الغَيبِ فهم يَكتُبونَه؟!
تفسير الآيات:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّ للمتَّقينَ عِندَه جَنَّاتِ النَّعيمِ؛ بَيَّنَ متى ذلك كائِنٌ وواقِعٌ .
وأيضًا لَمَّا نَفى اللهُ تعالَى جَميعَ شُبَهِ المشركينَ الَّتي يُمكِنُ أنْ يَتشبَّثوا بها، مع البيانِ لقُدرتِه على ما يُريدُ مِن تَفتيقِ الأدِلَّةِ، وتَشقيقِ البَراهينِ، الدَّالِّ على تَمامِ العِلمِ اللَّازمِ منه كَمالُ القُدرةِ، فأوصَلَهم مِن وُضوحِ الأمرِ إلى حدٍّ لم يَبْقَ معه إلَّا العِنادُ؛ أتْبَعَ ذلك تَهديدَهم بما يُثبِتُ قُدرتَه عليه؛ مِن يومِ الفصْلِ، ومُعاملَتِهم فيه بالعدْلِ .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ.
أي: يَوْمَ يَكشِفُ الرَّبُّ سُبحانَه عن ساقِه الكريمةِ، وذلك يومَ القِيامةِ .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((يَكشِفُ رَبُّنا عن ساقِه، فيَسجُدُ له كُلُّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ، فيَبقى كُلُّ مَن كان يَسجُدُ في الدُّنيا رِياءً وسُمعةً، فيَذهَبُ ليَسجُدَ، فيَعودُ ظَهرُه طَبَقًا واحِدًا !)) .
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ.
أي: ويُدْعَونَ إلى السُّجودِ لله تعالى في ذلك اليَومِ، فلا يَقدِرونَ على ذلك .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه -في حديثِ الرُّؤيةِ والشَّفاعةِ الطَّويلِ- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... فيُكشَفُ عن ساقٍ، فلا يبقَى مَن كان يَسجُدُ للهِ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه إلَّا أَذِنَ اللهُ له بالسُّجودِ، ولا يَبقى مَن كان يَسجُدُ اتِّقاءً ورياءً إلَّا جَعَل اللهُ ظَهْرَه طَبقةً واحِدةً، كلَّما أراد أن يَسجُدَ خَرَّ على قفاه! )) .
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43).
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ.
أي: تكونُ أبصارُهم يومَ القيامةِ خاضِعةً ساكِنةً .
قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] .
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
أي: تَغشاهم ذِلَّةٌ شديدةٌ .
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس: 27] .
وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ.
أي: وقد كانوا في الدُّنيا يُؤمَرونَ بالسُّجودِ للهِ، وهم أصِحَّاءُ، مُعافَونَ، لا يَمنَعُهم شَيءٌ !
كما قال تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31، 32].
وقال سُبحانَه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48].
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا خوَّفَ الكفَّارَ بعَظَمةِ يومِ القيامةِ، زاد في التَّخويفِ، فخوَّفَهم بما عندَه، وفي قُدرتِه مِن القهْرِ .
وأيضًا بعْدَ أنِ استُوفِيَ الغرَضُ مِن مَوعظتهِم، ووَعيدِهم، وتَزْييفِ أوهامِهم؛ أُعقِبَ بهذا الاعتراضِ تَسليةً للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ تَكفَّلَ بالانتِصافِ مِن المُكذِّبينَ ونصْرِه عليهم .
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
أي: فدَعْني -يا مُحمَّدُ- ومَن يُكذِّبونَ بالقُرآنِ، فخَلِّ بيْني وبيْنَهم، وفوِّضْ أمْرَهم إلَيَّ؛ فإنِّي أكفيكَهم، فلا تَستَعجِلْ هَلاكَهم، ولا يَنشَغِلْ قَلْبُك بهم !
كما قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 10، 11].
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: سنُقَرِّبُ هؤلاء المكَذِّبينَ بالقُرآنِ مِن عَذابِهم شَيئًا فشَيئًا بالتَّدريجِ مِن جِهاتٍ وأسبابٍ لا يتفَطَّنونَ إلى أنَّها مُفضِيةٌ بهم إلى الهلاكِ؛ حيثُ يَزيدُهم اللهُ تعالى مِن مَتاعِ الدُّنيا، فيَحسَبونَ ذلك خَيرًا لهم !
كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 44، 45].
وقال سُبحانَه: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 54 - 56].
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45).
وَأُمْلِي لَهُمْ.
أي: وأُمهِلُهم، ولا أعاجِلُهم بالعُقوبةِ .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) .
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ.
أي: ذلك مِن مَكرِي وكَيدِي بهم، ومَكري قَويٌّ شَديدٌ !
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ نَفى أنْ تكونَ لهم حُجَّةٌ تُؤيِّدُ صَلاحَ حالِهم، أو وعْدٌ لهم بإعطاءِ ما يَرغَبون، أو أولياءُ يَنصُرونهم؛ عَطَفَ الكلامَ إلى نفْيِ أنْ يكونَ عليهم ضُرٌّ في إجابةِ دَعوةِ الإسلامِ؛ استِقصاءً لقطْعِ ما يُحتملُ مِن المَعاذيرِ بافتراضِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَأَلَهم أجْرًا على هَدْيِه إيَّاهم، فصَدَّهم عن إجابتِه ثِقَلُ غُرمِ المالِ على نُفوسِهم .
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46).
أي: أم تَسألُ قَومَك مالًا -يا مُحمَّدُ- مُقابِلَ إبلاغِهم الحَقَّ، فيُثقِلُهم ويَشُقُّ عليهم ذلك فيَمتَنِعون عن قَبولِ نَصيحتِك، والاستِجابةِ لك ؟!
قال تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف: 104] .
وقال سُبحانَه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص: 86، 87].
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفَى اللهُ تعالى أن يكونَ تَكذيبُ المُشرِكينَ بشَهوةٍ دَعَتْهم إلى ذلك؛ نفَى أن يكونَ لهم في ذلك شُبهةٌ مِن شَكٍّ في الذِّكرِ، أو حَيفٍ في المذَكِّرِ، وأن يَكونوا على ثِقةٍ أو ظَنٍّ مِن سلامةِ العاقِبةِ .
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47).
أي: أم عِندَ أولئك المُشرِكينَ عِلمُ ما غاب عن الخَلقِ، فهم يَكتُبونَه ؟!
الفوائد التربوية:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ هذا الجزاءُ مِن جِنسِ عَمَلِهم؛ فإنَّهم كانوا يُدْعَونَ في الدُّنيا إلى السُّجودِ لله وتوحيدِه وعبادتِه وهم سالِمونَ، لا عِلَّةَ فيهم، فيَستَكبِرونَ عن ذلك ويأبَونَ، فلا تَسأَلْ يَومَئذٍ عن حالِهم وسُوءِ مآلِهم؛ فإنَّ اللهَ قد سَخِطَ عليهم، وحَقَّت عليهم كَلِمةُ العذابِ، وتقَطَّعَت أسبابُهم، ولم تنفَعْهم النَّدامةُ، ولا الاعتِذارُ يومَ القيامةِ؛ ففي هذا ما يُزعِجُ القُلوبَ عن المُقامِ على المعاصي، ويُوجِبُ التَّدارُكَ مُدَّةَ الإمكانِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ حمَلَه بعضُهم على أنَّ ذلك يَعني: حينَ كانوا يُدْعَونَ إلى الصَّلَواتِ بالأذانِ والإقامةِ، وكانوا سالِمينَ قادِرينَ على الصَّلاةِ، وأنَّ فيه وَعيدًا لِمَن قَعَد عن الجَماعةِ، ولم يُجِبِ المؤذِّنَ إلى إقامةِ الصَّلاةِ في الجَماعةِ ! قال كعبُ الأحبارِ: (واللهِ ما نزلَتْ هذه الآيةُ إلَّا عن الَّذين يَتخلَّفونَ عن الجَماعاتِ) .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قد يُكَلِّفُ في الآخرةِ امتِحانًا، وإنْ كانت ليست دارَ تكليفٍ، بل هي دارُ جزاءٍ .
2- قَولُه تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ استدَلَّ به بعضُهم على أنَّ صلاةَ الجَماعةِ فَرْضٌ على الأعيانِ ، ووَجْهُ الاستِدلالِ: أنَّه سُبحانَه عاقَبَهم يومَ القيامةِ بأنْ حالَ بيْنَهم وبيْنَ السُّجودِ لَمَّا دعاهم إلى السُّجودِ في الدُّنيا فأَبَوا أنْ يُجيبوا الدَّاعيَ، إذا ثَبَتَ هذا فإجابةُ الدَّاعي هي إتيانُ المَسجدِ بحُضورِ الجَماعةِ؛ لا فِعْلُها في بَيْتِه وَحْدَه، هكذا فَسَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإجابةَ في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم للرَّجُلِ الأعمَى: ((هل تَسمَعُ النِّداءَ)). قال: نعَمْ. قال: ((فأجِبْ)) . فلم يُجعَلْ مُجيبًا له بصَلاتِه في بيتِه إذا سمِع النِّداءَ؛ فدلَّ على أنَّ الإجابةَ المأمورَ بها هي إتيانُ المسجدِ للجَماعةِ .
3- قَولُه تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ بعْدَ قولِه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] : استُدِلَّ به على كُفرِ تاركِ الصَّلاةِ ، ووجْهُ الدَّلالةِ مِن الآيةِ أنَّه سُبحانَه أَخبرَ أنَّه لا يَجعَلُ المُسلِمينَ كالمُجرِمينَ، وأنَّ هذا الأمرَ لا يَليقُ بحِكْمتِه ولا بحُكْمِه، ثُمَّ ذَكَرَ أحوالَ المجرِمينَ الَّذين هم ضِدُّ المُسلِمينَ، فقال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وأنَّهم يُدْعَونَ إلى السُّجودِ لربِّهم تبارك وتعالى فيُحالُ بيْنَهم وبيْنَه، فلا يَستطيعونَ السُّجودَ مع المسلمينَ؛ عقوبةً لهم على تَركِ السُّجودِ له مع المصَلِّينَ في دارِ الدُّنيا، ولو كانوا مِن المسلِمينَ لَأُذِنَ لهم بالسُّجودِ كما أُذِنَ للمُسلِمينَ !
4- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ بيانُ أنَّ جِنسَ السُّجودِ أفضَلُ مِن جِنسِ القيامِ والقِراءةِ؛ فقد أُمِروا بالسُّجودِ في عَرَصاتِ القيامةِ دونَ غَيرِه مِن أجزاءِ الصَّلاةِ؛ فعُلِمَ أنَّه أفضَلُ مِن غَيرِه .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ أي: صَحيحونَ، فإنْ قيل: الصِّحَّةُ ليست شَرطًا في وُجوبِ الصَّلاةِ؟
الجوابُ: المرادُ: الخُروجُ إلى الصَّلاةِ في جماعةٍ مَشروطٌ بالصِّحَّةِ .
أو يُجابُ بأنَّه تعليلٌ لعدمِ استِطاعتِهم السُّجودَ فى الآخرةِ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ يدُلُّ على أنَّه لم يَسأَلْهم أجرًا على دَعوتِه إيَّاهم، وقال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى: 23] ، فالأجرُ المَسؤولُ المُستَفهَمُ عنه هو الأجرُ المادِّيُّ بالمالِ ونَحوِه .