عباد الله: ربنا تعالى حليمٌ كريمٌ عليمٌ رحيمٌ ودودٌ رحمته وسعت كل شيء، لكنه سبحانه إذا غضب على شيء فإن غضبه يكون شديداً يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد ﴾ [البروج:12]، وعذابه يكون أليمًا، قال تعالى: ﴿ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم ﴾ [الحجر:50].
وإذا غضب الله على عبدٍ فسيغضب عليه كل شيء، لاحظ في سورة الفاتحة لما ذكر الله تعالى الغضب قال سبحانه: ﴿ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين ﴾ [الفاتحة:7] لأن الله تعالى إذا غضب على عبدٍ فكُل شيء سيغضب عليه لذا قال: ﴿ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ ﴾ الملائكة ستغضب عليه السماوات ستغضب عليه الجمادات النباتات، كل شيء سيغضب عليه حتى الحيوانات.
يقول أحد الصالحين: «و الله إني لأعرف أثر معصيتي إذا تغيرت أخلاق دابتي و زوجتي».
من أعظم أسباب غضب الله على العباد الذنوب والمعاصي، قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون ﴾ [الروم:41].
من الناس من يُغضب الخالق والرازق ويُرضي فُلان وعلاّن.
من الناس من يفعل شيئاً ممنوعاً أو محرماً لكي يرضي مسؤوله في العمل، أو يُرضي زوجته.
من الناس من يعصي أُمه ويُرضي زوجته، ومنهم من يُرضي أُمه ويظلم زوجته.
وها هو أحد الشعراء وهو ابن هانئ الأندلسي، حيث يقول في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فهذا من وسوسة الشيطان للشعراء الذين يرتزقون ويتكسبون بشعرهم، ويضعون القوافي على أبواب وأعتاب ذوي النفوذ والمال والجاه، لعلهم يحظون منهم بنظرة عطف أو مال أو منصب أو غير ذلك.
هذا الشاعر قالوا عنه أنه خرج من القصر فأُصيب بمرض، وكان يعوي كالكلب على فراشه ويقول: أنت الواحد القهار، وأخذ يبكي ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتنِ
فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني
علّقت آمالي بغير الخالق
يعصون الله يُعظّمون المخلوق يرفعونه إلى منزلة الخالق من أجل منصبٍ أو جال أو مال.
هؤلاء الناس الذين يحاول أن يرضيهم هم أنفسهم سيغضبون عليه، هذا ليس كلامي هذا كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، قال: « و من التمس رضا الناس بسخط الله سخطالله عليه و أسخط عليه الناس»[أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414)].
ليس للإنسان أن يتوجه إلا لله، فلا يخاف إلا إياه، ولا يرجو سواه، ولا ينطلق في حياته إلا طلبًا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته، فينفذ ما أمر الله تعالى به لا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخَط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلّفه ذلك من مشاق.
مما يُغضب الله تعالى:
عباد الله: مما يُغضب الله أولاً: مدح الفاسق، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إذا مُدح الفاسق غضب الله واهتز لذلك العرش »[ضعفه الألباني ].
مما يُغضب الله ثانيًا: الحلف الكاذب لسرقة أموال الناس، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »من حلف على يمينٍ و هو فيها فاجر ليقتطع بها مالاً، لقي الله وهو غضبان« ونزل تصديق ذلك في كتاب الله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ [آل عمران:77].
ثالثًا: مما يُغضب الله هذا اللسان حين يتكلم بالحرام من غيبة ونميمة وهتك أعراض الناس، ففي مسند الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة بسندٍ صحيح عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له من رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه».
رابعًا: مما يُغضب الله سخط الوالدين وعصيان الوالدين، فرضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.
خامسًا: مما يُغضب الله الأكل الحرام، فإذا غضب الله على عبد رزقه من حرام، وإذا اشتد غضبه بارك له فيه.
عباد الله: إذا غضب الله على شيء فلن يفلح أبداً و لو فعل ما فعل، إلا إذا ارتفع عنه هذا الغضب، و إذا زاد الإنسان من إصراره على المعصية كان غضب الله تعالى أقرب و أشد.
قد يسأل سائل، كيف أرفع غضب الله عني؟
كيف أتعامل مع الله إذا غضب؟
ربنا سبحانه مع أنه غاضب على العبد إلا أنه يمهله يحلم عليه، مع أن حقه سبحانه يقتص ممن عصاه فوراً الآن هذا حقه إلا أنه يعطيه فرصة هذه الفرصة تسمى مرحلة الإمهال لعله يرجع لعله يعود.
قال يوسف بن الحسين: كنت مع ذي النون المصري على شاطئ غدير فنظرت إلى عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير فركبتها العقرب فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت فقال ذو النون إن لهذه العقرب لشأنا فامض بنا فجعلنا نقفوا أثرها فإذا رجل نائم سكران وإذا حية قد جاءت فصعدت من ناحية سرته إلى صدره وهي تطلب أذنه فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها فانقلبت وانفسخت ورجعت العقرب إلى الغدير فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت، فحرّك ذو النون الرجل النائم ففتح عينيه فقال يا فتى انظر مما نجاك الله هذه العقرب جاءت فقتلت هذه الحية التي أرادتك ثم أنشأ ذو النون يقول:
يا غافلاً والجليل يحرسه
من كل سوءٍ يدب في الظلم
كيف تنام العيون عن ملكٍ
تأتيه منه فوائد النعم
فنهض الشاب وقال: «إلهي هذا فعلك بمن عصاك فكيف رفقك بمن يطيعك» ثم ولى إلى الله تائباً نادما.
فإن قال قائل:
كيفأعرف هل الله غضبان علي أم لا؟
الجواب بسيط:
إذا كان العبد مصراً على المعصية مصراً على ظلمه ونفاقه فيُخشى عليه أن يكون ربنا فعلاً غضبان عليه.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أخي الحبيب: إذا أحسست أن الله غاضبٌ عليك توجد طريقة تُذهب هذا الغضب عنك،
بحيث يعود الرضا إليك بعد أن فقدته.
الحل:
أن تبحث عن أحد يخلّصك من هذه الورطة، و لن تجد أحدا يخلّصك إلا هو سبحانه،
فهو الذي سيخلّصك من هذا الغضب كل شيء تفر منه عنه إلا الله فإنك تفر إليه قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِين ﴾ [الذاريات:50].
سيخلّصك من غضبه إذا لجأت إليه هو وحده،
و لهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: »لا ملجأ و لا منجى منك إلا إليك«. و كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أذكى الخلق و أعرف الناس بالله، جاء في صحيح مسلم عن عائشة ل قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد (أي في السجود) وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» [أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (486) من حديث عائشة رضي الله عنها].
علّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن طلب الرضا قبل الجنة فكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- «اللهم إني أسالك رضاك والجنة».
ورضا الله أعظم من نعيم الجنة قال تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾ [التوبة:72].
أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعد الجدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
رجع عليه الصلاة والسلام من الطائف حزيناً كئيباً، ولجأ إلى الله عزوجل الذي لا ملجأ غيره داعيا ومتوجها بقلبه ومشاعره وأحاسيسه إليه قائلاً: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى أن قال: إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي» [أخرج هذه القصة ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 2 /419) بسند صحيح عن محمد بن كعب القرطبي مرسلاً، أما الدعاء فقد ذكره بدون سند، (المصدر السابق 2/420). وانظر: فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني (ص125-126)].
لسان حاله -صلى الله عليه وسلم- يارب: اُرجم اُسجن اُقتل كل هذا يهون أهم أمر رضاك عني« إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبالي ».
ولله در رابعة حين قالت:
فليتك تَحلو والْحياة مريرةٌ
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بينِي وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالَمين خراب
إذا صحّ منك الود فالكل هيّن
وكلّ الذي فوق التراب تراب
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد فيعلم أنه لا إله إلا الله، ويفيض حباً لله، ويرفع طرفه قبل المعركة ويقول: «اللهم خُذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى».
فيا أخي الحبيب:
ادع ربك كلّمه بكل مشاعرك و أحاسيسك، كلّمه من كل قلبك قل له:
يا ربي لا تغضب علي.. يا رب ارض عني، يا ربي ليس لي سواك قل له:
"يا رب إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.. اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا علىعهدك ووعدكما استطعت ". كلّمه قل له: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
حاول أن تُرضي ربك بما يحب جل وعلا، واعلم أن رضا الله من رضا الوالدين.
واعلم أن من رضي عن قضاء الله وقدره فله الرضا ومن سخط فعليه السخط. انتبه أن تُغضب ربك بمعصية، بعقوق، بنصرة ظالم، بقطيعة رحم، بأكل حرام، بيمينٍ فاجرة.
وعن ابن عمر -رضي الله عتهما- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يباعدني من غضب الله عزوجل؟ قال: « لا تغضب » [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال ما يمنعني وحسنه الألباني].
روي أن أمير بلدة حاتم الأصم اجتاز على باب حاتم فاستسقى ماء فلما شرب رمى إليهم شيئا من المال، فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنية صغيرة فإنها بكت. فقيل لها: ما يبكيك؟ قالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر إلينا الخالق.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.