موقف القضاء المغربي من اللعان
الواضح أن اللعان تـرك في التطبيق وانصرف عنه العمل القضائي ( أولا ) فما هو السبب وراء ذلك ( ثانيا ).
أولا: انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان
ما لاحظناه بخصوص انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان يرجع بالأساس إلى ما اطلعنا عليه من استشهادات الكثير من الفقهاء بخصوص هذا الانصراف في كتبهم، ويرجع أيضا فيما اطلعنا عليه ــ حسب مطالعتنا المتواضعة ــ من القرارات المنشورة حيث لم نجد ولو قرارا واحدا للمجلس الأعلى قضى بالقبول شكلا ومضمونا في اللعان، في حين نشر الكثير من القرارات الصادرة بنقض أحكام استئنافـية قضت باللعان، مستندا في ذلك إلى انعدام شرط من
شروط اللعان التي وضعها الفقه الإسلامي، فقد اشترط اللعان من الزوج فور العلم به و إلا فالنسب يلحق به، وفي ذلك يقول المجلس الأعلى: «. .إذا علم الزوج بالحمل وسكت فلا يسمع قوله بنفي النسب ولا يمكن من اللعان » [1] .
وأيضا يجب ألا يكون الولد غير لاحق شرعا بالزوج، كما لو أتت به الزوجة لأقل مدة من أدنى أمد الحمل بعد العقد عليها، وهو ستة أشهر أو لأكثر من أقصى أمد الحمل وهو سنة بعد الفراق حسب المادة 154 من مدونة الأسرة، حيث جاء في قرار للغرفة الشرعية بالمجلس الأعلى: « الوضع لأقل من ستة أشهر.. ينفي النسب بغير لعان.. ويفسخ النكاح.. » [2] . لأن الولد في مثل هذه الحالة غير لاحق أصلا وبالتالي لا يحتاج إلى نفي من طرف الزوج.
كما لم يعتد المجلس الأعلى بالحكم الصادر بالخيانة الزوجـية لنفي النسب حيث يقـول: « التصريح بالطلاق وتقـديـم شكاية غير كافـييـن لنفي النسب طالما أن الزوجة في عصمة الزوج، والوضع في أمده القانوني، ففي هاته الحالة لا يمكن للزوج نفـي النسب إلا بإجراء مسطرة اللعان، الشيء الذي لم يقم به الطاعـن وأمـام انعـدام هذه المسطرة فـإنه لا تأثيـر لادعاء الخـيانة لـقـولـه صلى الله عليه وسلم: (" الولد للفراش وللعاهر الحجر ") [3] .
يظهر من هذه القرارات التي ذكرناها أن المجلس الأعلى يتشدد أشد الحرص على إعمال كل الشروط التي وضعها الفقه لصحة اللعان ويثيرها تلقائيا ولم يقض في أي قرار بصحة اللعان، فأين يكمن السبب وراء ذلك ؟
ثانيا: السبب وراء موقف المجلس الأعلى من اللعان
إن تقييم حقيقة موقف المجلس الأعلى من اللعان لم يكن محل إجماع من طرف الفقه، حيث نجد رأيا فقهيا يقول: إن كثيرا من قرارات المجلس الأعلى نقضت أحكاما استئنافية قضت باللعان وأحيانا يكون النقض غير واضح التعليل فهل يأخذ المجلس الأعلى ــ ضمنا لا صراحة ــ بما ذهب إليه صاحب العمل الفاسي بقوله: « واترك لفاسق وغيره اللعان » وعدد صاحب لامية الزقاق ضمن ما جرى به العمل « واترك اللعان مطلقا أو لفاسق » ؟ بمعنى هل صرفت نية المجلس الأعلى لإلغاء اللعان بالمرة من التطبيق العملي تماشيا مع تشوف الشريعة الإسلامية للحوق الأنساب وثبوتها وحفظ مركز الطفل حتى لا يضيع نسبه ؟ [4].
في حين يذهب رأي آخر خلاف الرأي الأول حيث يعلل انصراف المجلس الأعلى عن التطبيق العملي للعان إلى الشروط التعجيزية التي أحاطها الفقه الإسلامي والمالكي - بصفة خاصة- باللعان والتي من شأنها عمليا أن تضيق كثيرا من نطاقه وأن تشل إعماله: فكيف يمكن للشخص العادي ــ غير الملم بتفاصيل الفقه الإسلامي في هذا الإطار ــ أن يلاعن في الحمل أو الولد وفقا لكل الشروط الفقهية للعان ؟ زد على ذلك بعض المعيقات العملية التي تحول دون ذلك، فأجل اللعان يوم أو يومين كما هو معروف، مثل هذا الأجل القصير جدا لا يكفي في وقتنا الحاضر تبعا للنظام القضائي والمسطرة الجاري بها العمل للتفكير في هذا الأمر والاتصال بمحام وتحرير مقال وإيداعه بالمحكمة علما أن المحاكم لا تعمل يومي السبت والأحد والأعياد، كما أن الشخص الذي غادر للخارج وترك زوجته بمجرد العقد عليها، ثم يفاجأ بخبر ولادتها وهو بالمهجر، فكيف يسمح له هذا الأجل أن يلاعن زوجته ؟ علما أن الشخص العادي غير عارف بهذا الأجل أصلا، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أنه متى كان الزوج من المتشبعين والملمين بتفـاصيل أحكام الفقه
في هذا المجال فإنه سيلاعن لا محالة وفقا لكل الشروط الموضوعة لذلك، وآنذاك سوف لن يجد المجلس الأعلى تعليلا لرفض الملاعنة وسيقضي دون شك بذلك [5].
ويبدو أن كلا الرأيان منطقيان إلا أننا نميل ــ حسب رأينا المتواضع ــ إلى تبني الرأي الأول، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: أنه ليس من الصدفة وإلى يومنا هذا عدم وجود أي قرار للمجلس الأعلى يقضي باللعان، بل لابد من وجود دافع قوي وراء موقفه غير تبرير أصحاب الرأي الثاني، لأن مدة خمسين سنة ونيف من تأسيس المجلس الأعلى ــ ولا وجود لأي قرار يؤيد إعمال مسطرة اللعان ــ مدة كافية لدحض تعليل أصحاب الرأي الثاني، ويبدو أن المجلس الأعلى متشوف للحوق النسب، ويحرص أشد الحرص على حفظ مركز الطفل حتى لا يضيع نسبه لمجرد دعوى قد تكون كاذبة أو مجرد انتقام من الزوجة وكيدا لها، وهو ما سيؤثر لا محالة على مركز الطفل.
وبما أن نظام اللعان هو نظام يفرض وجوده من حيث القانون ويغيب على مستوى التطبيق العملي للقضاء، فإننا نعود لما قلناه بضرورة تغيير مسطرة اللعان وتدعيمها بالخبرة الطبية، حماية لنسب الطفل من الإنكار الكاذب وأيضا حتى لا يلحق نسب الأب بغير ابنه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ــ قرار المجلس الأعلى الصادر في 5 يوليوز 1975، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 23، ص 34 وما بعدها.
[2] ــ قرار المجلس الأعلى الصادر في 3 فبراير 1987، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 40، ص 167 وما بعدها.
[3] ــ قرار عدد 859، بتاريخ 21/07/1992، ملف عدد 6299/91، غرفة الأحوال الشخصية بالمجلس الأعلى، أورده رشيدي مغنية، مرجع سابق، ص 83 ــ 84.
[4] ــ أحمد الخمليشي، التعليق على قانون الأحوال الشخصية، الجزء الثاني، آثار الولادة والأهلية والنيابة القانونية ص 50.
[5] ــ رشيدي مغنية: حق الطفل في النسب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص (وحدة الأسرة والطفولة)، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الحقوق فاس السنة 2002 /2003 ص 84