المقاصد العامة للتشريع الإسلامي: أبعاد فلسفية ومنطلقات أصيلة
مقدمة
التشريع الإسلامي هو نظام متكامل من الأحكام التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم حياة الإنسان في جميع جوانبها، بدءًا من العبادات إلى المعاملات، مرورًا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية. وقد جاء التشريع الإسلامي ليس فقط لتنظيم سلوك الإنسان، بل لتحقيق مقاصد عامة تتماشى مع فطرة الإنسان وتدعو إلى التوازن بين مصلحة الفرد والجماعة. تعتبر المقاصد العامة للتشريع الإسلامي من الركائز الأساسية لفهم الشريعة الإسلامية، إذ أنها تعكس الأبعاد الفلسفية العميقة التي تُمثل المنطلقات الأصيلة لهذا التشريع. في هذا المقال، سنتناول المقاصد العامة التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، مع تسليط الضوء على أبعادها الفلسفية ومنطلقاتها الأصيلة.
المقاصد العامة للتشريع الإسلامي
التشريع الإسلامي لم يكن مجرد مجموعة من الأحكام الجزئية التي تؤطر السلوك، بل هو منظومة تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة. تتعدد المقاصد العامة للتشريع الإسلامي، ولكن يمكن تلخيص أبرزها في النقاط التالية:
- تحقيق العدالة
يعد العدالة من أبرز المقاصد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي. فقد جاءت الشريعة لتحقيق المساواة بين الناس، والعدالة في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن جنس أو عرق أو حالة اجتماعية. قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمُ أَنْ تُؤَدُّوا۟ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا۟ بِٱلْعَدْلِ" (النساء: 58). في هذه الآية نجد دعوة لتحقيق العدالة بين الناس في جميع مجالات الحياة، سواء في القضاء أو في المعاملات. - حفظ النفس
من مقاصد التشريع الإسلامي الكبرى حفظ النفس، وهذا يشمل الحفاظ على حياة الإنسان وكرامته. ويفهم من ذلك أن الإسلام يعتبر النفس البشرية ذات قيمة عظيمة، ويجب حمايتها من كل ما يهددها سواء كان ذلك من خلال القتل أو من خلال الممارسات التي تؤدي إلى الضرر بها، كما في قوله تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا۟ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ" (الإسراء: 33). - تحقيق مصلحة المجتمع
أحد المقاصد الجوهرية الأخرى للتشريع الإسلامي هو تحقيق مصلحة المجتمع. فقد جاءت الشريعة الإسلامية لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع بما يضمن تحقيق مصالحهم المشتركة، والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى. قال الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ" (المائدة: 2). - تحقيق العبودية لله
واحدة من أسمى المقاصد في التشريع الإسلامي هي تحقيق العبودية لله، التي لا تقتصر فقط على أداء العبادات، بل تشمل جميع أعمال الإنسان التي تبتغي رضا الله. قال الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56). إن التشريع الإسلامي يهدف إلى توجيه الإنسان نحو الله سبحانه وتعالى في جميع تصرفاته وأعماله.
الأبعاد الفلسفية للتشريع الإسلامي
التشريع الإسلامي يحمل أبعادًا فلسفية عميقة تتجاوز الحدود الضيقة للمعاملات الحياتية اليومية. من هذه الأبعاد:
- التوازن بين الدنيا والآخرة
التشريع الإسلامي يعكس فلسفة متوازنة بين متطلبات الحياة الدنيا ومطالب الآخرة. الإسلام لا يهمل الحياة الدنيا ويحث على العمل فيها بما يضمن رخاء الفرد والمجتمع، ولكنه في الوقت نفسه يذكر المؤمنين بضرورة الحفاظ على آخرتهم، وتحقيق التوازن بين المصالح الدنيوية والأخروية. - الحرية والمسؤولية
الفلسفة الإسلامية تُعلي من قيمة الحرية، ولكنها تقيدها بالمسؤولية أمام الله والمجتمع. فالإسلام يعترف بحرية الإرادة ويحث الإنسان على اختيار طريقه في الحياة، لكنه في ذات الوقت يفرض عليه مسؤولية كبيرة تجاه الله وتجاه الآخرين. - العدل الاجتماعي
تظهر الفلسفة الإسلامية في تشريع الأحكام العادلة في العلاقات الاجتماعية، حيث تساهم الشريعة في القضاء على الظلم، وتعزز مفهوم المساواة بين جميع أفراد المجتمع. وفي هذا السياق، نجد أن الإسلام ينظم حقوق الأفراد ويضمن لهم الحماية في إطار اجتماعي عادل.
منطلقات التشريع الإسلامي الأصيلة
تشريع الإسلام ليس فقط مجموعة من القوانين، بل هو منظومة متكاملة تقوم على أساسات أصيلة تبرز في:
- الإيمان بالله
كل تشريع إسلامي ينبثق من الإيمان بالله كمصدر أولي للتشريع. وهذا الإيمان يضع ضوابط للإنسان في سعيه نحو تحقيق مصالحه بما يتوافق مع إرادة الله. - العدالة
كما ذكرنا سابقًا، العدالة هي من أسس التشريع الإسلامي. فالإسلام يعزز من القيم التي تقوم على مبدأ العدالة بين الناس في الحقوق والواجبات. - الرحمة
الرحمة هي سمة بارزة في التشريع الإسلامي، وقد تجلت في التشريعات التي تضمن حقوق الأفراد والمجتمع.
خاتمة
إن المقاصد العامة للتشريع الإسلامي تحمل في طياتها فلسفة عميقة تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي مرجعية قوية في بناء المجتمعات المتحضرة التي تقوم على أسس من العدالة، والمساواة، والرحمة. ومن خلال هذه المقاصد الفلسفية، يصبح التشريع الإسلامي أساسًا لتحقيق التوازن بين حاجات الإنسان الروحية والجسدية، وبين متطلبات الحياة الدنيا ومتطلبات الآخرة. وفي النهاية، يبقى التشريع الإسلامي مرشدًا للبشرية نحو حياة متوازنة تحقق الكرامة الإنسانية، والعدالة، والمساواة، والسعادة الدائمة.
المصادر:
- القرضاوي، يوسف. فقه مقاصد الشريعة.
- الطاهر بن عاشور. التحرير والتنوير.
- محمد عبد الله دراز. المقاصد العامة للتشريع الإسلامي.
- محمد الغزالي. العدالة الاجتماعية في الإسلام.
#المقاصد_الشرعية #التشريع_الإسلامي #فلسفة_الشريعة #العدالة_الاجتماعية