كثيرون يعيشون هذا الوضع ويسألون أنفسهم الأسئلة نفسها، فهم لا يستطيعون أن يماشوا التغيير الحاصل حولهم في كل شيء، ولا يستطيعون العيش وحدهم في عزلة عما حولهم، لا يوافقون على أمور كثيرة يرونها ضد قناعاتهم والمبادئ التي تربوا عليها، لكنهم لا يملكون أمر تغييرها ولا تغيير قناعاتهم، لا تعجبهم أفكار أبنائهم المراهقين ولا أفكار زملائهم،
لكنهم لم ينجحوا أبداً في إقناع هؤلاء المراهقين بأفكارهم العظيمة والعبقرية! المراهقون يعتبرون آباءهم موضة قديمة انتهى زمانها، والآباء يعتبرون جيل اليوم خارجاً على كل شيء، فهم بلا جذور ولا مرجعيات دينية وثقافية.. وفي النهاية فالطرفان غالباً ما لا يلتقيان.. فما هو الحل كما يسأل البعض؟
المشكلة ليست في الاختلاف والتغير، فالأصل في أفكار الناس وتصرفاتهم أنها مختلفة ومتغيرة، هذه سنة الحياة وتدخلات أخرى، فليس بيدنا أن نوقف العجلة، لكن بأيدينا أن نكون جزءاً من التغيير نحو الأفضل وبالقدر الذي نستطيعه دون أن نتخلى عن دورنا وواجبنا فمنذ عشرين عاماً ـــ كما قلت لأحدهم ـــ كنت أنت نفسك تنظر لوالدك على أنه لا يفهمك وأنه موضة قديمة وكان هو بالمقابل يعتبرك "نبتاً شيطانياً" ويستعيذ بالله من تصرفاتك وأفكارك المتطرفة التي كنت تجاهر بها أمامه،
كان لا يسمح لك بأن تدخل إلى البيت تلك الكتب التي كنت تأتي بها من بيروت والقاهرة أثناء دراستك الجامعية في مصر، لأنه كان ينظر إليها على أنها كتب خارجة ومن فعل الشيطان، لأنه كان يعتقد أن على الإنسان أن يقرأ القرآن والكتب الدينية والعلمية فقط! وحدها والدتك كانت تقف إلى جانبك وتساعدك على »تهريب« الكتب إلى داخل المنزل!
القضية إذن ليست جديدة، والصراع هو نفسه يتكرر، نحن لا يمكننا أن نؤمم الحياة والآخرين لصالح أفكارنا، والحياة لا تعيش في مساكن الأمس ـــ حسب تعبير جبران خليل جبران ـــ لكن الأمس هو نفسه الذي أنجب تلك الأم التي هربت الكتب السياسية التي كان الوالد يحظر دخولها للبيت لتعين ابنها على القراءة والوعي، والأمس نفسه هو الذي منح الابن ذلك الوهج للعلم والذهاب لآخر الدنيا طلباً للمعرفة.
والأمس نفسه هو الذي حصننا بثقافة عمرها مئات السنين، ومن حقنا أن نحصن أجيالنا المقبلة بها لأنها وحدها هويتهم وجواز عبورهم نحو الآخر، نحو حضارات الغير وثقافات الأمم، فالإنسان لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون ابن ثقافة لم تنجبه أو ابن حضارة لا يربطه ولم يربطه بها ذات عمر حبل سري من لغة ودين وتاريخ!
ليس عيباً أن تتغير الحياة، بل العيب والخطأ ألا تتغير، فالتغيير من طبيعة الدنيا ومن طبيعة البشر، لكن السؤال هو: التغيير إلى أي درجة؟ والتغيير في أي اتجاه؟
ليست هناك مشكلة في اختلاف الأفكار، المشكلة أن نحول اختلاف الأفكار إلى حالة براءة من ثوابتنا من جانب البعض، وإلى حالة سلبية واعتزال من جانب البعض الآخر.. وهنا تبدأ المناكفة ويبدأ الصراع الذي لا يقود إلى نتيجة!