

يفوح منكِ عبق العفاف، فترتشف منه كل أصيلة؛ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعُزَّى بن قصي بن كلاب بن مرة، القرشية الأصيلة النبيلة، أم عبدالله، وأم ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرب أمهات المؤمنين في النسب للرسول صلى الله عليه وسلم.
أكتب لكِ أمَّاه رثاءَ محبٍّ يبتغي به عند الإله القرب والرضوان:
وددت لو تجري الكلمات على الورق كجريان شعوري نحوكِ؛ لتتحدَّث عن مكنون النفس، لكنها تقف عاجزة، حتى إني لم أستطع أن أصِفَكِ بكل ما في داخلي، ولا أجد وصفًا لكِ إلا كما يصفكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)).
صِدْقُ المعشر تكشفه المواقف:
آوَتْ رسولنا الكريم حين خذله الناس، وفي أَوْجِ حزنه، إيواءَ شعورٍ، عندما لم يكن جسد النبي صلى الله عليه وسلم هو المحتاج للإيواء، إنما قلبه وروعه.
والإيواء مصطلح يعبر عن الإقامة الدائمة، وحسن الاستقبال، وكذلك حسن الرعاية، والاستقرار الاجتماعي والنفسي، وطلب الأمن والسند والراحة، أو بمعنى آخر ضم الإنسان غيره، واللجوء إلى مكان آمن يرجع إليه في أي وقت.
والله إن معاني الإيواء كلها تجلَّت في خديجة؛ لأن الإيواء وقت الخذلان لا يمكن نسيانه، حين ترى الكل ضدك، وحتى من ظننته سندًا يخشى أن يقف بجانبك، لكنها سُنَنُ الله.
حين عجز بعض الرجال عن نصرة الرسالة النبوية، سخَّر الله لها أشراف النساء؛ ليكُنَّ رائدات صدر الدعوة.
كيف لخديجة أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتراه جزعًا، يقول لها: ((زمِّلوني، زملوني))، فتُحزنه ببرود مشاعرها وتزيد آلامه؟
فما كان لها إلا أن تأتي رضي الله عنها فتزمِّله وتدثِّره، لا ريب أنها زمَّلته بقلبها وعطفها، قبل أن تُزمِّله بردائها.
وهذه هي الغاية الأسمى من زواج الرجال بالنساء؛ وهي إيواء القلوب قبل الفُرُش والأجساد.
لن تجد امرأة تأوي قلب رجل، ثم يخذلها ويكسرها؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187].
يخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رَيبِهِ مما رأى، فترُدُّ عليه خديجة بلسان العاقلة الرزينة التي سبقت أغلب رجال زمانها: "والله لن يخزيك الله أبدًا"، ثم شرعت في تعداد صفاته ومحاسنه، وكأنها مسحت الروع عن نفسه الخائفة بذكر مناقبه وتذكيره بها.
خديجة صاحبة الوفاء؛ والوفاء هو ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء.
وهي التي تزوجت رسول الله لِخُلُقِهِ، مع أن أصحاب الأموال في زمانها تهافتوا إلى الزواج منها، لعظم شرفها وخُلُقها، فلم يعجبها أموالهم وأجسادهم، فالشريفة ستشرف أكثر بزواجها.
كأنها همست في قرارة نفسها: ((إذا أتاكم من ترضَون دينه وخُلُقَه فزوِّجوه)).
خديجة التي ما تذمرت يومًا من غاية إرسال الرسل، حاشاها أن تلفظ بقول أو تلميح يسيء لزوجها، أو للرسالة التي آمنت بها بقلبها قبل لسانها، ويأتي النقص التي يريده الأعداء من قبلها، فكانت أول امرأة في الإسلام سخَّرها الله لتكون رقمًا صعبًا لا تكسره فنون الحياة.
أعانت الرسول على دعوته وخلَّدت اسمها في ميدان العابدات الصالحات، لم تعُنْ عليه نوائب الدهر، وتُشمت به الأعداء، أو تجلب له النقيصة والعيب.
تمثَّلت بخُلُقِ النساء العربيات الأصيلات إلى أن جاء زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزيد المكارم كرامة ورفعة.
كم نطلب من النساء والبنات أن يكُنَّ كخديجة، وأن يقرأن سيرتها بعيدًا عن النماذج الغربية غير المستقيمة! وكذلك نرجو من الرجال أن يكونوا كرسول الله لخديجة.
امرأة أحبَّت خُلُقًا قبل أن تعجب بجمال، فجعلت غاية الزواج الخُلُقَ قبل اللون، ففازت بحياة سعيدة زادها الدين جمالًا.
ما أجمل المرأة التي تضحي من أجل دينها وعقيدتها!
وميزان المرء أثره، فإذا أردتَ أن تعرف أثرها فانظر لذريتها؛ فاطمة المجاهدة، ورقية، وأم كلثوم، وزينب، فحتى صويحباتها كُنَّ صاحبات فضلٍ، فلماذا يكرمهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولا أنهن صديقات العفيفة، وميزان المرء أصحابه؟
يا أم عبدالله، أعجز عن بَوحِ شعوري، ربما ذرفت العينان حين أعجز أن أصفَكِ.
كيف كنتِ أمًّا وقائدة ومضحية لأجل قضية يشرف من حملها، فشرَّفكِ الله في الدين والدنيا، وعوَّضكِ خيرًا؟
عِظَم النتيجة مع عظم الهدف الذي حملتِه، ولولا نجاحكِ في الهدف ما بانت لنا النتائج.
ولذلك جاء أن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّرك بأن يا محمد بشِّر خديجةَ، بأن الله يبلغها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة.
عظم السلام من الله لا يُعطى لمن عاش عيشة الغافلين، إنما هو للعِظام، والعظيم لا يجازي إلا من عظم شرفه عنده.
رضِيَ الله عن السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وأرضاها.
المصدر : شبكة الألوكة