تغنّت الأممُ عبر العصور بمُثلٍ عليا وقيم إنسانية. وناشدت عبر التاريخ السمو والرفعة بل وجعلت مبتغاها سامياً يطمحُ للمدينة الفاضلة. المدينةُ التي تُبنَى عَلى أسُس المَعرفة والقيَم العليَا. المدينة التي يعرفُ فيهَا الفردُ كَيف يَكون مُواطناً. الفضاءُ الذي يَــعْــتَبرُ الثقافة استثماراً في الأجيال. المُجتمعُ الذي يشعرُ فيه المواطنُ أنه مدعو ليبني قدر ما يستطيع وينظر إلى نفسه على أنّهُ جزءُ لا يتجزأ من هذا البنيان المرصوص وأن سرّ قوّته يكمنُ في مدى ثقافته ووعيه. فأي علاقة بين هذا البنيان والثقافة؟
| نخبةُ سياسة لا تهتمُ بالثقافة والعقل بقدر ما تهتم ببطونها وبالإسمنت والحجر. نخبٌ لا تفكّر كما يجبُ أن يفكر زعماءُ أمة تسعى للخروج من أزمة تلف الأفق، أزمة الفكر والأخلاق والعقل أيضاً. |
الإنسانُ يولدُ ورقةً بيضَاء ويتعلّم. يَتَعلّم منَ الأسرَة الصغيرَة ثمّ منَ المدرَسة، ومَا يلبَثُ أن يَكبرَ قليلاً ليَلمَسَ عن قرب خفايا الشّارع، وهنا يبدأ التعليم الحقيقي. المُجتمع خَارج المَدرسة يعتبرُ فضاءً فسيحاً للأفكار سالبها وموجبها، صالحَها وطالحها. المجتمع خارج أسوَار المَدرسة هو من يعلمُ المرء كيف يعيش وكيف يكون إمّا فرداً من سرب يسمو ويتألق في السماء، وإما فرداً من قطيع يجترُ كلّ يوم ما تراكم من ويلاته وكبائره ويتمرغ في خطايا أسلافه.
الثقافة مسألة حيوية وضرورة أساسية لحياة كلّ مجتمع. لماذا لا تهتمُ سياساتنا بكلّ ما هو ثقافي؟ أليسَ بالثقافة يعرفُ المرءُ قيم المواطنة، يعرفُ كيف يعيشُ فرداً متعاوناً متضامناً؟ اهتمامنا بتلقين الشباب والصغار مبادئ المواطنة يبدأ بتلقينهم ثقافة تنمي أفكارهم. ثقافة تزرعُ فيهم قيمَ الإنسان الاجتماعي الذي به يبنى المستقبل وبه يرفعُ رهان التنمية. التنمية التي ينشدها الجميعُ باحثاً عنها في مجالات أخرى لا يمكنُ أبداً تحقيقها على أرض الواقع.
فكأنما تبحثُ للزراعة في أرض قاحلة دون توفير الشروط الأساسية. لا يمكنُ لمجتمع أن يرتقي دون الرقي بفكر الأفراد، وهذا أمرٌ غاية في الأهمية بالنسبة للمدن النامية أو التي لم تصنف بعد كمدينة بكل مواصفاتها. المجتمع المدني يجب أن يكون مفكراً، طموحاً إلى تمرير أفكاره للشباب والناشئة. هذا الفكرُ الذي يجبُ أن يتبناه السياسي ويأخذ به المعلم ويعمل به ربّ الأسرة وكلّ من يمتلكُ قرار الأمة. لماذا لا نهتم بهذا الشق؟
وهل يمكن اعتبار الثقافة ترفاً ؟ أم أن هذه الثروة التي نسعى إليها لا يمكننا الوصول إليها إلا عن طريق ثقافة اجتماعية واقتصادية خلاقة تزرع قيم المواطنة في الجيل الجديد؟ الرأسمال البشري أغنى من امتلاك معادن وآبار نفط، إذ يمكن الاستثمار فيه على المدى البعيد في مجالات شتّى. هكذا يمكننا الحصول على رأسمال بشري مثقف في مجالات عدّة وله خبرات وكفاءات يستثمرها السياسي ورجال الاقتصاد ليرفع قيمة المدينة وينمي بها وضعها الاقتصادي.
الثقافة مسألة حيوية وضرورة أساسية لحياة كلّ مجتمع. لماذا لا تهتمُ سياساتنا بكلّ ما هو ثقافي؟ أليسَ بالثقافة يعرفُ المرءُ قيم المواطنة.
يمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك، مثالاً واقعياً يجعل من الرأسمال البشري موضوعاً يهتم به أكثر من اهتمامه بمجالات أخرى. يمكننا أن نستعرض التجربة اليابانية أو سنغافورة أو بعضا من الدول الأخرى التي حققت نجاحاً باهراُ فقط من خلال التركيز على ثقافة المجتمع وتثقيف الناشئة عبر وسائل متعددة تبدأ بالمواطنة وتنتهي إليها.
هذه الدول دُمّرت بالكامل في الزمن الذي كانت فيه دولتنا مزدهرة، ثمّ أعيد تشييدها وهي لا تملكُ نفطاُ ولا غازاً لكنها تملكُ شباباً مفكراً. أصبحت فيما بعدُ دولاً متقدمة التحقت بالركب بينما بقيَ بلدنا يسيرُ في خط مستقيمٍ لا يرتفعُ نسقُ تطوره رغمَ ما يشهده من تطور ملحوظ لا ينكره جاحد. سنغافورة تعتبرُ نموذجاً حياً للاستثمار في الانسان الذي يعدّ استثماراً هائلاً لا يكلف كثيراً سوى جرأة سياسية، وهي الجرأة التي طالما تغنى بها سياسيونا، وإرادة قوية تتمسك بالفعل بعيداً عن خطابات خشبية لسياسيين فوق منابر تنثر الوعود ويقولونَ ما لا يفعلون.
ففي عصر ما كانت مدننا العربيّة تغسلُ شوارعها بالماء وتكنسُ، كانت سنغافورة مستنقعاً للفقر المدقع والتلوث، لكنّها وقفت وقفةً واحدة منتبهةً لدور رأسمالها البشري والفكري وعقولها وأدمغتها، فصارت بعد أربعين سنة فقط وجهةً مغرية وعاصمةً مالية للعالم، بينما ظلّت معظم المدن العربية تحت خطّ الفقر والجدران الإسمنتية التي تؤثر في العقول سلباً وتدفع الأدمغة للهجرة نوح آفاق رحبة.
هذه إشكالية عامة شاملة ليست محدودة النطاق بل هي ظاهرة عربية، بيد أن بإمكان مدننا أن تكونن نموذجاً. مازال الوقت متوفراً بل يتجاوز الوفرة تماماً كوفرة الطاقات الشابة في مختلف المجالات. هذا، ويبقى السؤال مطروحاً بالخط العريض وبإلحاح كبير جداً: متى تهتم السياسة بالثقافة والفكر؟ هذا لا يتأتى إلا بالوعي. هذا الوازع يملكهُ جلّ المهتمين والمثقفين لكنّه لا يكفي.
المجتمع المدني يجب أن يكون مفكراً، طموحاً إلى تمرير أفكاره للشباب والناشئة. هذا الفكرُ الذي يجبُ أن يتبناه السياسي ويأخذ به المعلم ويعمل به ربّ الأسرة وكلّ من يمتلكُ قرار الأمة.
ربما جاء الوقت لتتزاوج الإرادة بالفعل، وتوافق الرغبة الفكر ثمّ يتبلورُ نقاش عمومي تشركُ فيه جميعُ الجهات. عندها سيخرجُ الجميعُ بنظرة يطبعها التفاؤل بمستقبل يرى فيه الشباب الناشئ نوراً عوضا عن الواقع القاتم. واقعٍ لا يعدُ بالكثير أمام نخبة سياسية تضعُ أمورها الشخصية فوق كلّ اعتبار وترى في السياسة فضاءً للاستغناء وكسب الثروة لا مجالاً للاستثمار والعمل.
نخبةُ سياسة لا تهتمُ بالثقافة والعقل بقدر ما تهتم ببطونها وبالإسمنت والحجر. نخبٌ لا تفكّر كما يجبُ أن يفكر زعماءُ أمة تسعى للخروج من أزمة تلف الأفق، أزمة الفكر والأخلاق والعقل أيضاً. لقد آن الأوان أن يهتمّ المثقفون بالسياسة ورجال الفكرِ. هذا ربما حلمٌ صعب المنال بعيدٌ جداً عن الواقع لكنه يظلُ سؤالاً. لنا حقّ طرحه بإلحاح وللمجتمع أن يعيه إن شاء أو يتجاهلهُ ويستمر دورانه في دوامة من الحضيض إلى الحضيض، بدلاَ من التقدم إلى الأمام. فهل تصلُ الرسالة إلى أذن تصيخُ وتعِي، وعقل يسمعُ ووجدانُ يُفكر كما يجبُ ليس كما يشاء. فالمجتمع الذي يفكّر يُنتجُ الحياة.