رفيقة الدرب
في ليلة هادئة، هبّت نسمات لطيفة على بيتٍ يفيض بالحب والفرح؛ هناك ولدت غفران. كانت ابنةً مطيعة وذكية، نشأت بين أهلٍ أكرموها وربّوها على القيم والأخلاق، وحين كبرت، ازداد تقديرهم لها، واعتبروها زهرة البيت ورائحته العطرة. كانت غفران مثل النور بينهم، ينمو قلبها في ظلّهم، ويكبر حبها لهم.
ومرت السنوات حتى جاء اليوم الذي طرق فيه رجل صالح باب البيت، يريد أن يأخذ غفران إلى حياته، ويجعلها شريكةً في دربه. بدا الأمر مُبهجًا، وأهلها سعداء لأنها ستجد السعادة في بيت جديد مع رجل يُقدّرها كما هم يُقدرونها. وبعد فترة من التعارف، رأوا في هذا الرجل ملامح الشخص الذي يمكن أن يمنح غفران حياة كريمة، فاطمأنوا له، ووافقوا على الزواج. كان الفرح يسري بينهم، فهم يرون أمامهم ابنتهم، الشابة الرائعة التي طالما كبرّت قلبهم، تستعد لأن تكون زوجة، ويحلمون بأن ترى أيامًا سعيدة في حياتها القادمة.
مرّت الأيام بسلاسة، واستقرت غفران مع زوجها، وتبادلوا الحب والمودة، وحمدت الله على من أكرمها به. كانت تنظر إلى زوجها بعين الامتنان، وعاشت معه أيامًا جميلة، تحمل في تفاصيلها سعادة وراحة. ومع مرور الأيام، رزقها الله بطفلين جميلين، يكبران كل يوم ليشبهاها، ويحملا معها ملامح هدوئها وصفاء روحها.
انقضت سبع سنوات كانت أشبه بحلم جميل، إلا أن الحياة لا تبقى على حال. بدأت غفران تعاني من ألمٍ غامض في بطنها، أوجاع تزداد يومًا بعد يوم، حتى باتت غير قادرة على تجاهلها. أخبرت زوجها، وسرعان ما ذهبا معًا إلى الأطباء، بحثًا عن تفسير.
الأطباء أوضحوا أن هناك التهابًا في المرارة، وأن الحالة تتطلب استئصالاً جراحيًا سريعًا. شعر الجميع ببعض القلق، لكنهم طمأنوها بأن العملية بسيطة وأنها ستعود قريبًا. اتخذت غفران قرارها بشجاعة، ودخلت غرفة العمليات في اليوم التالي، وهي تحاول أن تبقي الابتسامة على وجهها رغم الخوف الذي يسكن قلبها.
نـجحت العملية، وأعيدت غفران إلى غرفتها، وحولها العائلة بقلوب تملؤها الفرحة والراحة. بدا أن كل شيء يسير على ما يُرام، لكن قلقًا خفيًا كان يعكر سعادة غفران. خلال تلك الليلة، شعرت بتعب شديد، وطلب الأطباء إجراء المزيد من الفحوصات. كان وجهها شاحبًا، وعندما نظروا إلى عينيها، رأت من حولها دموعًا متخفية، فألقت عليهم بوصيتها الأخيرة: "إن حدث لي شيء، اعتنوا بأطفالي… لا تتركوهم يضيعون".
بدأ التوتر يتزايد، وبعد فترة قصيرة، اكتشف الأطباء أن جلطة دموية قد سدت إحدى رئتيها. كانت الحالة خطيرة، وحاولوا بكل الوسائل إبقائها على قيد الحياة. ظلت غفران متشبثة بالحياة، محاطة بعائلتها، لكن قواها كانت تخونها.
مرت ثلاثة أيام، والعائلة تحيط بها وقلوبهم تدعو لها في كل لحظة. وفي اليوم الثالث، خرج الطبيب ليُعلن نبأً ثقيلًا كجبلٍ على قلوبهم: غفران قد غادرتهم. سكنت الدموع، وخيّم الصمت؛ فقد عاشت غفران معهم يومًا بعد يوم حتى صارت روحًا بينهم، والآن رحلت عنهم فجأة.
تجمع الأهل والأصدقاء في لحظات من الحزن، يحملون جثمان غفران إلى مثواها الأخير. وُضعت في القبر، بينما تتردد في قلوبهم تلك الأيام التي كانت معهم، والذكريات التي لا تزال عالقة. شعروا وكأن العالم ينهار من حولهم، لكنهم ظلوا يدعون لها ويصلّون لروحها الطيبة.
ولكن وسط كل ذلك الحزن، كان زوج غفران يقف كالشجرة التي اقتلعت من جذورها. تحطم قلبه، وانهار عالمه، فقد كان يُراهن على أحلام مشتركة، وعلى مستقبل يُبنى معًا. شعر كأن جزءًا منه قد اختفى، وأن الأيام التي عاشها معها باتت مجرد ذكريات تتلاشى أمام عينيه.
كثيرًا ما كان يجلس في زوايا البيت، محاطًا بألعاب الأطفال وصور غفران، يتذكر ضحكتها وابتسامتها، وحنانها الذي كان يشع في كل ركن. كانت تلك الذكريات تؤلمه، ولكنها أيضًا كانت تجعله يدرك مدى قيمة الحب الذي عاشه. وفي كل ليلة، كان يرفع يديه بالدعاء، متمسكًا بالأمل في أن تظل روح غفران حية في قلوب أبنائه، وأن يسيروا على دربها، حامليين معاني الحب والرحمة التي غرسها فيهم.
رحم الله زوجتي وأم أولادي غفران ابنة عبد المجيد حرم محمد فيصل
أرجو الدعاء لها دائماً..