ما أعمق هذا البوح، وما أشدّ هذا الشجن! لقد نسجتِ من خيوط الروح قصيدة تتلظى، فجعلتِ الألم إبداعًا واللوعة فنًا. إنّ كلماتكِ ليست مجرد حروف، بل هي نغمات تتراقص على أوتار القلب، وتروي حكايا الوجود في أعمق تجلياته.
فلسفة العشق والقدر
لقد اصطحبنا قلمكِ في رحلةٍ تتيه بين الوعي واللاوعي، بين الاختيار والجبر. فما أصدق قولكِ: "سأقول ملكاً او جنيا عشقتُ... حتى لا ألام في المعصيه". هنا يتجلى صراع الإنسان الأزلي مع المسؤولية، محاولًا إلقاء تبعات لوعته على قوى غيبية أو شيطانية، تبريرًا لقلبٍ أُشربَ الهوى حتى الثمالة. إنها دعوة للتأمل في حدود الإرادة الحرة، وهل نحن حقًا أسياد أقدارنا أم أن هناك خيوطًا خفية تُسيرنا نحو مصائر لم نخترها؟
ثم ينتقل بنا الشاعر إلى مفارقة الوجود، فالهوى يصبح "كرم عنب مُسكرٍ، من قبلُ ان أجنيَه"، وهذا يشي بحالة من الانجذاب اللاواعي، حيث يقع القلب في الأسر قبل أن يعي العقل معنى الوقوع. إنه الانجذاب الفطري الذي لا تحكمه قوانين المنطق، بل هو سرٌّ من أسرار الكون، يهز الكيان ويسلبه السكينة. ولقد تجلت براعة الوصف في "انسَلّ لَيلُه مِن لَيلِـيَ. جَنَّ، و ورِثْتُ سَكرَتي"، فما أعمق هذا الامتزاج بين الذات والموضوع، بين الشاعر ومعشوقه، حتى بات الليل ليلين، والسكرة وراثة لا فكاك منها.
صراع الروح والجسد
"أتمايل في عز صحوتي، أُقَفّي الكلام في شَجْوِيَ". هنا تكمن ذروة الألم الفلسفي، حيث تتلاشى الحدود بين الصحو والغفوة، بين الوعي واللاوعي. فالجسد وإن كان مستيقظًا، فالروح تتوه في سكرة الهوى. إنها حالة الوجود المعلق، حيث لا يستطيع المرء أن يجد مرسى لكلماته، فالشجن يغلب على الحجة، وتصبح الحقيقة متوارية خلف ستار من المشاعر المتضاربة. ولقد صدق الشاعر في تساؤله: "لا يدري السامع لحجتي، أتلو سِحرا أم أدعيه". هذا يلقي الضوء على طبيعة الفن والإبداع، فهل هو سحر يُلقى على المتلقي، أم هو مجرد دعوى لا تمت للحقيقة بصلة؟ إنها دعوة للتأمل في تأثير الكلمة وقدرتها على سلب الألباب.
أما الأمنية "ليت مساراتنا افترقتْ، ليتها كانت موازية"، فهي تكشف عن الندم الفلسفي العميق. ندم على لقاءٍ قلب الموازين، وغيّر مسار الحياة. فوجود "بعضي يبغي الحياه، و بعضي عليها باغية" يصور الصراع الداخلي للإنسان، حيث تتنازع الذات بين رغبتها في الحياة وبين ما يدفعها نحو الفناء بسبب هذا الحب الذي أصبح قيدًا. إنها ثنائية الوجود والعدم، الأمل واليأس، تتجلى في أبهى صورها الشعرية.
الشعر ملاذاً وبلسماً
لقد كان فتح "دكان الشعر" ملاذًا للروح، حيث يبيع الشاعر "جرحي بالقافية". هذا يمثل تحول الألم إلى إبداع، فالجرح لم يعد ضعفًا، بل أصبح مادة خصبة للفن. "اسكب دمعي في قوارير، تصير بلسما لجرحِيَ" هي صورة شعرية بديعة، ترمز إلى قدرة الفن على الشفاء. فالدموع، التي هي رمز الألم، تتحول إلى بلسم، وهذا يجسد القدرة التحويلية للفن على تخفيف وطأة المعاناة.
وفي ختام القصيدة، يتجلى عمق التفكير الوجودي. فالجهل بنور المعشوق كان ليجنب الشاعر "رشفة من حياةٍ، ولا درَيتُ عن موتيَ". وهذا يطرح تساؤلاً جوهريًا: هل المعرفة الدائمة تقود إلى الشقاء؟ وهل السعادة تكمن في الجهل أحيانًا؟ إنها مفارقة مؤلمة، فاللقاء الذي منح الحياة، هو ذاته من عرف الشاعر بالموت، فالحب الذي يمنح الحياة، يحمل في طياته بذور الفناء أيضًا.
بعض من ثرثرة قلمي في مدح شاعرة الكلمات
فليت شعري يُوافي بعض حقكِ يا من
نسجتِ من ألم الروح أروع الدرر
وكلُّ حرفٍ خطتهُ يداكِ أضحى
سحراً، تاهَ فيهِ السمعُ والبصر
فما أقوى البيانَ وما أبهى قوافيهِ
وما أسمى شعوراً بقلبٍ قد استعرْ
شاعرةَ الحسِّ، يا من أضاءتْ ليلنا
بنورِ الفكرِ واللفظِ، يا أغلى البشرْ
أنتِ بحرٌ من الإحساسِ، وعمقٌ
كم تاهَ فيهِ عقلٌ، أو تساؤلٌ حارْ
فبوركتْ يمناكِ، وبوركَتْ روحكِ
يا من أبدعتِ في فنِّ القولِ، أبدعَ النثرْ
ماذا لو تأملنا في هذا البناء الفني الرائع، وذهبنا أعمق في تحليل تداخل الأبعاد الفلسفية والنفسية فيه؟
اعتذر عن الرد المطول لكن عمق وغزارة النص جعلت قلمي يتمتم بما لديه
تحياتي لك
𝐈𝐍𝐆é𝐍𝐈𝐄𝐔𝐑༗.
حيدر الشمري