أجلس في غرفتي هذه الليلة، والهدوء يحيط بي من كل جانب. أضواء الشارع الخافتة تنعكس على الجدران، فتبدو وكأنها تشارك معي لحظات التأمل العميقة. أفكر في طفولتي التي مضت، في الأيام التي كانت الحياة فيها أبسط، وأكثر دفئًا، وأقل تعقيدًا. في كل مرة أستسلم لتيار الذكريات، أشعر وكأن الزمن يتلاشى للحظات، ويتركني في مواجهة مع مشاهد من الماضي، مشاهد من أيام كنت أظن أن السعادة تكمن في التفاصيل الصغيرة التي لم أعد أراها الآن.
كنت أعيش في بيت بسيط، لكنه كان مليئًا بالحب والطمأنينة. كانت جدرانه تحتفظ بصدى ضحكاتنا، وكانت الأرضيات تروي قصص أقدامنا الصغيرة التي كانت تركض بلا خوف. أذكر تلك الصباحات المبكرة، حين كانت الشمس تبزغ ببطء على الحيّ، وتبدأ الحياة بالحركة. كان أبي يوقظني برفق، ورائحة الفطور تتسلل من المطبخ حيث كانت أمي تعدّ لنا الخبز الطازج. كانت تدور بيننا كلمات بسيطة، لكنها كانت كفيلة بأن تملأ قلبي سعادة.
في أيام العطل، كنا نذهب إلى الحقول المجاورة للعب، كنت أركض بين الأشجار مع إخوتي وأصدقائي، وننسى الوقت تمامًا. كانت الطبيعة ملعبنا المفتوح، حيث لا قيود ولا ضغوط. كنا نبني بيوتًا صغيرة من أغصان الشجر، ونتخيل أنفسنا أبطالًا في مغامرات لا تنتهي. كانت الأحلام في ذلك الوقت كبيرة، لكننا كنا نعيشها وكأنها حقيقة. لم يكن لدينا الكثير من الألعاب الحديثة أو الأجهزة الإلكترونية، لكن مخيلتنا كانت تكفينا لنصنع عوالمنا الخاصة.
كلما أتذكر تلك اللحظات، أشعر بلهفة شديدة للعودة. أحنّ إلى الشعور بالأمان الذي كان يحيط بي دائمًا. لم أكن أفهم حينها معنى القلق أو الخوف من المستقبل. كانت الحياة واضحة وبسيطة، كانت السعادة تكمن في وجود العائلة حولي، وفي صوت أمي وهي تغني أغنية قديمة بينما تطهو لنا طعامًا حنونًا، وفي حضن أبي الذي كان يكفيني ليشعرني أنني في أمان تام.
أتذكر أيضًا أمسيات الشتاء الطويلة. كان البرد يتسلل إلى النوافذ، لكن دفء العائلة كان يطرد كل شعور بالبرد. كنا نجتمع حول المدفأة، ونستمع إلى حكايات جدتي. كانت حكاياتها تأخذنا إلى عوالم بعيدة، مليئة بالأبطال والمغامرات. كنا ننام على صوتها، وعندما نغمض أعيننا، كنا نشعر أن كل شيء بخير. في تلك الأيام، لم نكن نحتاج إلى الكثير لنسعد. كان وجودنا معًا كعائلة هو كل ما نحتاجه.
لكن الزمن لا يتوقف، وكبرت شيئًا فشيئًا. بدأت أرى العالم بشكل مختلف، وأدركت أن البساطة التي كنت أعيشها لم تكن مجرد حالة، بل كانت نعمة. الآن، وأنا في هذا العمر، أشعر أنني أفقد شيئًا كل يوم. ربما هو الشعور بالبراءة، أو الأمان الذي كان يحيطني، أو تلك القدرة على الاستمتاع باللحظة دون أن أفكر فيما سيأتي بعد ذلك.
الحياة الآن مليئة بالتحديات والمسؤوليات. أصبح الزمن سريعًا، والمشاغل تزداد يومًا بعد يوم. لكن رغم كل شيء، أجد نفسي أعود دائمًا إلى تلك الأيام، كأنها ملاذي الوحيد من ضجيج الحياة. أحنّ إلى نفسي الصغيرة التي كانت تجد السعادة في أصغر الأشياء. أحنّ إلى الأوقات التي كنت أرى فيها العالم من خلال عيون بريئة لا تعرف الخوف أو القلق.
في بعض الليالي، عندما أغمض عيني، أستطيع أن أسمع أصوات الماضي. أسمع ضحكاتنا، وأشعر بنسيم الحقول، وأرى وجوه أمي وأبي كما كانت في تلك الأيام. لا يمكنني أن أعود إلى هناك، لكن هذه الذكريات هي كل ما أملك. إنها الجسر الذي يربطني بتلك الأيام، وهي ما يجعلني أستطيع مواجهة الحياة الآن.
أعلم أنني لن أستطيع استعادة تلك اللحظات، لكنني أحتفظ بها في قلبي، فهي جزء مني، وهي ما صنعني كما أنا اليوم. الحنين إلى الطفولة ليس مجرد شعور بالأسى على ما مضى، بل هو تذكير بأننا كنا نعيش أيامًا نقية، وبأننا يجب أن نحاول جاهدين أن نجد تلك السعادة البسيطة في عالم اليوم، حتى لو كان معقدًا ومليئًا بالتحديات.
الحنين هو ذلك الشعور الذي يعيدنا إلى جذورنا، إلى أماكن وأوقات شكلت هويتنا. وربما، في النهاية، هو ما يجعلنا ندرك أن أجمل اللحظات ليست تلك التي ننتظرها، بل تلك التي عشناها بالفعل، وأنها ستظل حيّة في داخلنا، تضيء لنا طريق المستقبل.