قامت عصابة باختطاف زوجته فطلب المساعدة من إمام المسجد، فأقنعه أن يتخلى عنها.
في قريتنا العالمية الصغيرة تحدث العجائب، لقد أصبحت مؤخرا مثل الغابة، يفترس القوي فيها الضعيف،
أشعر أننا نقوم بامتحان تطبيقي لنظرية داروين المتعلقة بالانتخاب الطبيعي، سيبقى في الأخير أكثرنا شراسة
وجرأة في الاعتداء على الآخرين.
ذات مساء جاءني صديقي أبو العبد، أخبرني أن زوجته فاطمة قد تم اختطافها وهي عائدة من المستشفى حيث تعمل طبيبة للأطفال،
لا عجب الكل يعرف من اختطفها إنه ابن أحد ملوك القرية، والذي أصبح يعيث فسادا في الأرض دون معارضة أو إنكار.
بن يامين شاب تافه ذو وجه بشع له أنف يشبه زلومة الخنزير، أنشأ عصابات من المرتزقة وصار يهدد الأمن العام،
يسرق وينهب دون أي رادع
تمنيت لو أن صديقي أبا العبد لم يخبرني بالأمر، لم يطلب مساعدتي، لدي حياتي الخاصة، زوجة وأبناء، ومسكن أرضاه،
وتجارة أخشى كسادها، لماذا يضعني في هذا الموقف المحرج حتى أجبر على مساعدته في البحث عنها، وطبعا لأننا نعرف أين هي،
سنضطر لمواجهة الخنزير في مستنقع الوحل.
فكرت قليلا ثم خطرت لي فكرة مجنونة.
ـ علينا أن نقصد إمام المسجد الكبير ونطلب منه المساعدة.
هكذا أجبته وأنا أحاول أن أتملص من هذه المشكلة، طبعا لقد قبل المسكين فلا خيار لديه، وطلب مني مرافقته،
ففعلت ذلك وأنا أتمنى أن تنتهي مهمتي عند ذلك المسجد الكبير وأن يتكفل الإمام بهذا الأمر دوني.
وما هي إلا لحظات حتى وصلنا إلى المسجد ووجدنا رجلين آخرين هناك، أحدهما اختطفت أخته والآخر اختطفت ابنته،
فقلت في نفسي اللعنة على الخنزير، ماذا يفعل؟؟ هل يريد أن يخرج الأمور عن السيطرة؟؟
بما أن الشكوى كانت واحدة والمشتكى منه هو نفس الشخص قرر الإمام أن يستمع إلى الجميع في جلسة واحدة على عجل،
لقد كان مستعجلا حيث أخبرني أحد العاملين في ذلك المسجد أن هذا الإمام على موعد عشاء مع الملك،
أبي هذا الخنزير حيث وعده أنه سيجعله المشرف العام على تجديد الخطاب الديني في مساجد القرية جميعا،
لقد كان لقاء أهم من مشاكل هؤلاء المساكين الذين اختطفت نساءهم.
بدأ الرجل الأول في الشكوى والذي اختطفت ابنته، لقد كان يبكي بحرقة شديدة،
كان مستعدا ليحرق الأرض بمن فيها من أجل استعادتها ولو جثة هامدة، هو لا يستطيع أن يفكر فيما لو اعتدى ذلك الخنزير عليها،
لقد بدأ الإمام يهدئ من روعه ويذكره بآيات كظم الغيظ والصبر على قضاء الله وقدره، وحذره من الفتنة وإثارة البلبلة في القرية،
التي ستتسبب في مناكير لا يعلم مقدارها إلا الله، لقد كان الإمام عالما حقا مقنعا لدرجة الجنون، شخصيا لقد أقنعني،
وبدأت أغمز إلى صديقي حتى ينسحب دون أن يقدم شكواه إلى الإمام، يمكنه تقبل الأمر ونسيان زوجته،
بل هي فرصة قد تمكنه من تجربة ثانية في الزواج مع فتاة أخرى.
فعلا لقد اقتنع الرجل الذي اختطفت ابنته وأقسم للإمام أنه سيصبر ويدعو الله في انتظار الفرج،
فذكره الإمام أن يدعو في السر ولا يجهر بالدعاء على المختطفين فالله يعلم السر وأخفى ويسمع صوت القلب حتى ولو لم يتلفظ به اللسان.
خرج الرجل وهو في حالة عشوائية تذكرني بحالتي عندما كنت أدخن ثلاثة سجائر ملفوفة بالحشيش دفعة واحدة،
حتى شككت أن الإمام قد جعله يدخن واحدة مثلها أو أكثر قوة.
ثم بدأ الرجل الذي اختطفت أخته في تقديم شكواه، لقد كان يزأر مثل الليث، ولم يعجبه ما حدث لسابقه، بل بدا يلمح للإمام قائلا:
ـ سيدي أظنك أخطأت التقدير، أنت لا تشعر بآلامنا، ماذا لو كانت ابنتك هي التي اختطفت؟
بمجرد أن تحدث الرجل الثاني عن ابنة الإمام تذكرتها لأنني كنت أعرفها، لقد درست معي،
وكانت بيننا قصة حب منحرفة، قبل أن تنتهي بانتقال الإمام إلى مسكن بعيد عن منطقتنا حيث سكن منزلا فسيحا
محميا بأسوار عالية وعاش حياة رغيدة بين أسواره سخاء رخاء، حيث أصبحت ابنته تدرس في مدارس
النخبة حولها الخدم والحشم والحرس.. دعنا من هذا الآن هي متزوجة وأنا متزوج ولا داعي لاستذكار
المشاهد غير الأخلاقية خاصة ونحن في مقصورة المسجد.
أعرف أن ابنة الإمام أو حفيدته على الأقل في تفكيره، مستحيل أن يختطفها الخنزير،
لأنها تعيش في قفصها الكبير أو المحمية تحت حراسة عسس الملك، رغم ذلك فإن سؤال الرجل الذي
اختطفت أخته قد أثار حفيظة الإمام وجعله يغضب وينظر في وجهه الحليق ورأسه القزع المقزع، حيث تنهد بعدها وقال ساخرا:
ـ أنت تنقذ أختك؟ بهذه الحلاقة المنحرفة، وبهذا الوجه الأنثوي الذي ليس فيه شعر، وبهذه الملابس التي تشبه ملابس الكفار، تنقذها، هل تصلي؟؟
فقال الرجل نعم، أصلي ولست أهتم إن رأيتني أم لا، أنا أصلي لله وحده.
فقال الإمام متعصبا:
ـ أنت تعرف الله، أيها ال...، هل تعرف التوحيد؟؟
احمر وجه الرجل غضبا واشتدت أعصابه كمدا لشدة القهر، وخفت أن يلتفت إلي الإمام ويسألني نفس السؤال،
لأنني لا أعرف هذه الكلمة، أنا تاجر جبان ولا علاقة لي بالعلوم الشرعية والمصطلحات العقائدية،
ولأنني خفت من الموقف الحرج قررت أن أبحث في ذاكرتي عن الكلمة حتى أجيب إن سألني..
لأن كتاب الله كان في رأسي، بدأت أراجع الآيات بسرعة خاطفة، فلم أجدها،
ولأنني مررت بكثير من كتب الحديث وعلى رأسها موطأ الإمام مالك وصحيحي البخاري ومسلم،
فلم أذكر أنني تلاقيت بهذا اللفظ إلا مرة واحدة، ربما هو مجرد مصطلح كان نادر الاستعمال في بداية التدوين،
واختاره علماء عصر ما جاء في ما بعد، في ظروف معينة ليعبروا عن مفهوم الإيمان
أو ما تعلق به من خلال ما كان منتشرا في ذلك العصر من مظاهر الشرك.. الله أعلم..
الحمد لله أنه لم يسألني لأن الرجل غضب وخرج من المقصورة، وكنت خائفا أن يخرج من الإسلام أيضا لشدة غضبه.. عجيب أمر الناس حقا،
لماذا كل هذا الغضب؟؟ فقط لأن الخنزير اختطف أخته؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
أخيرا حان الوقت ليقدم صديقي أبو العبد شكواه وليسمعه الإمام الذي كان ينظر في ساعته ويبدو قلقا جدا،
كأننا نعطله عن مشروع العمر ولقاء ملكه الذي يخشاه ويطمع فيما عنده.
ـ لقد اختطفت زوجتي سيدي الإمام.
كان صديقي يتحدث والإمام ينظر إليه يتفقده كأنما يبحث له عن نقطة ضعف يضربه من خلالها،
للأسف صديقي أبو العبد كانت له لحية خفيفة، ويرتدي القميص ويضع كوفية على شكل عمامة، ووجهه مثل المصباح، وبسرعة أخرج السواك من جيبه حتى يراه الإمام، هذا الأخير الذي سارع بالسؤال:
ـ هل تعرف التوحيد؟؟
فرد صديقي أبو العبد قائلا بثقة:
ـ أعرفك على نفسي أيها الإمام، أنا أبو العبد، بروفيسور في العلوم الشرعية درست العقيدة والتاريخ الإسلامي.. إلى آخر حديثه.
لقد بدأ يتحدث بمصطلحات لم أفهم منها شيئا، ظننت أنها بلغة أجنبية، حتى الإمام وأنا متأكد أنه لم يفهم شيئا،
لأنه حصل على دكتوراه فخرية منحه إياها الملك بعد أن نقله من مسجد منطقتنا الصغير إلى المسجد الكبير آخذا معه ابنته
التي كانت أول حب منحرف لي.. اللعنة يجب أن لا أتذكر هذه المشاهد في هذا المكان.
تنحنح الإمام، وسكت برهة، ثم تنحنح ثانية وثالثة ثم التفت إلي، ورمقني بنظرة ساخرة شملت وجهي وأطرافي وكل شيء في،
لقد تحول وجهه إلى اشمئزاز غامر جعلني أخال أنه تذكر علاقتي بابنته، ربما هو لا يغار عليها من الخنزير،
لكن لا بد أنه سيستشيط غضبا إذا عرف أن واحدا مثلي من أراذل القوم ومساكينهم استطاع أن.. أستغفر الله،
يجب أن أمنع أفكاري المجنونة من استعادة مشاهد الصبا، تبا تذكرت الصبا واشتقت لما، رأيت حمولها أصلا حدينا،
فقطع الإمام تفكيري بكلامه الموجه إلى صديقي أبي العبد:
ـ قل من تصاحب أقول لك من أنت؟
وابتسم كأنه عثر على نقطة ضعف البروفسور أبي العبد في شخصي أنا، ثم استدرك كلامه:
ـ ما دمت تصاحب أراذل الناس ونفاخ الكير منهم، وتسمح لزوجتك بالعمل والخروج وحدها دون محرم، لا حول ولا قوة إلا بالله،
وأين تعمل في المستشفى حيث الاختلاط أظن أن الله أنزل بك هذا العقاب حتى تتوب وتعود إليه، أنصحك بالتوبة..
ثم تلى قوله عز وجل: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون)
فكأنني أسمع تلاوته في أذني تترجم بقوله عز وجل:
(وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك).
إن هذا الإمام من أولئك الذين كانوا دائما يبحثون عن نقطة ضعف في المظلوم المضطهد حتى
يحملوه المسؤولية وحده ليبرروا خذلانهم وتخلفهم عن نصرته، نعم إنها سيكولوجية الاستبداد والفرعنة،
حيث يتمكن الظالم المستبد من استضعافه والانفراد به.. فجأة خرجت من دوامة أفكاري المجنونة والتفت إلى صديقي ونظرت في وجهه جيدا بتركيز..
لقد بدأ يتحول ويخرج دراكولا أو المستذأب الذي بداخله، لقد تذكرت كل الأفلام التي شاهدتها حول هذا الموضوع،
تبا، هل هو منتصف الشهر القمري؟؟ نعم القمر بدر هذا المساء، سيفترس أبو العبد الإمام في هذه المقصورة،
علي أن أسرع به إلى الخارج قبل يستخرج أمعاء هذا القسيس ليشنق بها ابن الملك الإقطاعي اللعين،
سنخرج ونبحث عن باقي المستذأبين ومصاصي الدماء والمتحولين من شدة الغضب،
عن البشر العاديين الطبيعيين أراذل القوم الذين لا يؤمنون بالمنطق في مسائل الشرف ولا بالرياضيات،
الذين تختفي طموحاتهم المستقبلية إذا أهينت كرامتهم وأوذوا في دينهم ووطنهم وأعراضهم،
الذين يعرفون أن العمر مهما طال سينتهي وأن كل امتحان يمكن أن يستدرك إلا امتحان مواقف الإيمان
وشكرا جزيلا لكم