كنت أنادي بصوت عال ، لكن صوتي لا يتجاوز جدران البيوت الإسمنتية ،
كل من حولي كانوا يجعلونني أشعر كوني مجرد جزء من أثاث لا غير،
و أحيانا أكاد أنسى أنني فردا من أفراد تلك الأسرة المكهربة...
منذ أن قدمت إلى هذا العالم لم أعرف شيئا عن الإستقرار والهدنة الدائمة ،
في صغري كنت أذهب إلى المدرسة الإبتدائية التي تبعد عن منزلنا بكيلومترات على متن الحافلة ،
لكن بمجرد أن أنهيت المرحلة الإبتدائية حتى تم إجباري على ترك المدرسة ....
الغريب في الأمر أنني لم أعرف السبب حينها، لكن بعد مرور الأيام سمعت أمي تهمس لأبي بأنها بحاجة لمن يهتم بإخوتي و كون شؤون البيت كلها ستلقيها على كاهلي بعد أن تهتم بعملها الخاص خارجا...
بعد مرور سنة وجدت والدتي تطلب مني مرافقتها إلى "الفيلا" التي تعمل بها طباخة كي أساعدها ، أما إخوتي الصغار فقد تركتهم في رعاية أختي الكبرى التي انفصلت عن زوجها مؤخرا ...
مرت عدة سنوات و أنا أرافق والدتي و أقوم بكل الأعمال المنزلية من السابعة صباحا حتى السابعة مع مغرب شمس كل يوم،
يحدث أن أمضي يومي متعبة ومنهكة ،و يحدث أن أصبح ضحية أحد أفراد تلك الأسرة حين يصب جام غضبه و ينفجر في وجهي بالسب و الكلام الجارح، حتى لو لم يقع أي تقصير متعمد من طرفي فإني جزائي المعتاد هو توجيه اللوم والعتاب بلا جرم ولا تهمة..
أحيانا أسائل نفسي هل سأمضي حياتي خادمة بيوت !!
أترك البيت قبل صلاة الفجر و لا أعود إليه إلا و المؤذن يؤم المصلين لصلاة العشاء !!
هل يحق لي بعد كل هذا أن أحلم بحياة خاصة ؟
هل يحق لي الحلم وتقرير مصيري المعتقل !!...
لكن متى و كيف سيقع هذا إن كنت قد نسيت معنى الإبتسامة ولا شكلها....
استوطنني الأسى بل وقد تمكن من روحي مرارا ،
أتذكر أنه في سنوات مراهقتي كان يحلو لي أن أقرأ تلك الروايات الرومانسية العاطفية..
أجتهد في إخفائها عن والدتي ، إذ كانت ملاذي الوحيد من حياة البؤس و الضنك .
استرجع تلك الذكريات فأشعر بالشفقة اتجاه نفسي ...
حتى رحلتي الأسبوعية إلى "الحمام الشعبي" أصبحت تمر سريعة ،
ليس لأنني أكرهه ، لكنني أكره نظرات النساء المتصلبة إلى جسدي النحيف،
و إمطارهن إياي بأسئلة أنا عن نفسي لم أعد أطرحها
فما بالك أن أجد أجوبة مقنعة حولها !!...
ها أنا أضع قدما في العقد الثالث لي و من ينظر إلي و أنا مغلفة وسط جلبابي الأسود
يظن أني أفوق ذلك العمر بعقد آخر على الأقل ،
ها أنا أقوم بوأد أحلامي- رغم قلتها- الواحد تلوى الآخر ..
و يبدو أن "القدر" يساعدني في ذلك .
أظن أن الستار سيسدل على الفصل الأخير من حياتي المتعفنة قريبا،
و حتى وإن حدث و رحلت عن هذا الصندوق الإسمنتي المقرف
لا أظن أن أحدهم سيشعر بالأسى أو الحزن جراء ذلك ،
باستثناء أمي المسكينة التي ستفقد مورد لقمة العيش وتلك الدريهمات التي أجنيها نهاية كل شهر بعد أن أقعدها المرض في إجازة خصبا عنها...
يبدو أن النساء من شاكلتي كتب عليهن أن يعشن حياتهن على الهامش بلا رحمة ،
وكتب عليهن أن يفنين حيواتهن من أجل الآخرين شمعة تحترق
وتخبو في ظلامها الدامس لوحدها بلا مصباح ينير عتمتها..
يبدو أن مصيرهن كمصير ذلك الجندي مجهول الهوية
الكل يتحدث عنه لكنه سينسى بمجرد أن يوارى الثرى
ويصبح مجرد ذكرى عبرت....
سنظل نصرخ بأفواه مكممة و حين تضيق بنا الدنيا نضع بعض المساحيق
من أجل إخفاء أحزاننا لا من أجل التجميل ...
ولكن المصير يكتب والحياة رغم كل ذلك تستمر....