فتحت عيني على الدنيا لأجد قلبي يتعلق بجدتي تعلقًا يفوق الوصف، ورغم أن كل من حولي كان يؤكد لي أن معظم الأحفاد هكذا علاقتهم مع جداتهم،
وأن حبهم تبادل مع حب الجدات لهم، الا أنها لم تكن فقط تمثل لي جدة تحبني بل كنت أراها سيدة متميزة وكلما كبرت كنت أزداد يقينا بقناعتي، فهي تحظى بالحب من كل المقربين لها والاحترام ممن حولها، تشع دفئًا وحنانا وتمد الجيران بحكمة وخبرة التجارب وتسارع في تقديم العون، على الرغم من بساطتها وتعليمها الذي لم تحظى على قدر وفير منه، فقد كانت تقرأ بصعوبة.
كانت تدير حياة أسرتها بفطنة وذكاء وحسن تدبير، رزقت بالعديد من الأبناء ذكورا وإناثا والزوج يكبرها بسنوات وقد ترك لها زمام الأمر، ويمضي غالب يومه في العمل ليسد احتياحات عائلته، حتى إذا هلك واجهت قلة المعيشة بكثير من المعاناة وأعانها الله، وتزوج بعض الأبناء وانخرط الجميع في الأعمال لتحصيل الأرزاق والسعي وراء مطالب الحياة.
لم تكن ملامح الحزن التي تبدو أحيانا على وجهها تعني أنها غير راضية، وإنما كانت تجاوب لشيء يدور بداخلها يحذرها فقد مضى العمر ولابد من الاستعداد لما هو آت.
حُسن ظنها بالله لم يفارقها في مشوار الحياة لكنها باتت تشعر أنها في أشد الاحتياج لشيء يزيد قربها إليه ويؤنس وحشة غدت تطرق عيها الأبواب، لم تكن تُدفع عنها إلا عندما تستشرف لسماع آيات القرآن، وساق لها من دلها على أن تلتحق بتلك الدار التي تعج بمجالس الذكر وتعلم آيات كتاب الله. ذهبت معها أول مرة فقد كانت تخشى ألا يقبلوها بينهم فقد كبر السن ووهن العظم، وكم كان الترحيب بها من أهل الفضل هناك وعادت وقد عقدت العزم وشمرت للسير مع ذلك الركب مستعينة بالله الذي أمدها بعلو همة.
لم تلتفت لما قد يعتري الطريق من معوقات، من البداية أنعم الله عليها بإحدى المعلمات الرفيقات وألحقتها بمجموعة تتناسب معها وأخذت تحفزها للتنافس معهن، تشجعها وتحفزها، فتعود لبيتها تواصل جهدها وقد احترم الجميع وقتها، وأخذ قلبها يلهث بالشكر لربها فيزيدها بركة في وقتها وعافيتها وشيئا فشيئا يسر الله لها حفظ ما تقرأه، وأن تقوم به ليلها، وتصبح وقد أفاض الله عليها حلما ورحمة وحسن خلق بمن حولها، تتبع قدوتها واسوتها حبيبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان خلقه القرآن.
وتوالت عليها الأيام والشهور بل السنوات، لم يقعدها حر أيام صيف أو برد شتائها عن التواجد في دارها، بل كان أشد ما آلمها تلك الأزمة الصحية التي مرت بها، لا لشيء إلا لبقائها تحت الرعاية الطبية، ومنعها من الذهاب لدارها، وظل قلبها ولسانها يرددان آيات ربها، ومنَّ الله عليها بالعافية، وإذا بمعلمتها التي لم تتركها في أيام مرضها تعيدها إلى الدار فعادت تواصل سعيها، وقد جددت نيتها لتحاول أن تكون مع تعلمها للقرآن أن تعلمه لتحظى بالخيرية فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ومضت سنوات لم تهتم بعددها وأعدت دارها تلك الحفلة التي تكرم فيها اللاتي ختمن حفظ القرآن راجين الله أن يكنّ مع الملائكة الكرام البررة، وتختارها معلمتها لتكون عروس حفلها وتلبسها تاج يزين وجهها فتخر ساجدة بالشكر لربها، ثم تقبل رأس معلمتها شاكرة لها.
