نال مني التعب والجوع بعد مضي ثلاث ساعات من القيادة متوجها نحو مدينة مراكش للبحث عن العمل. قررت الوقوف في محطة استراحة على الطريق الوطنية، لنيل قسط من الراحة. كانت المحطة تضم خمسة دكاكين لجزارين كل منهم يقدم أطباق الشواء، احترت أيهم أطلب منه غذائي فأنا لا أعرف المحطة ولا جودة اللحوم فيها ولا صيت بائعيه. التفتت يمينا ويسارا فقررت الدخول لأي دكان تتوقف قدماي عنده، فتم الأمر، وها أنذا أقف أمام أحدهم. نظرت لأصناف اللحوم لديه، فأثار انتباهي مخ خروف لازال طازجا وكأنه للتو ذبح، فسألت الجزار فكان حدسي صحيحا.
المخ من أشهى الأطباق عندي، فطلبته مرفقا بربع كيلوغرام كفتة خروف مشوية مع الطماطم والبصل. كنت أنتظر الطعام بفارغ الصبر. وما هي إلا لحظات حتى وضع المخ أمامي ناضجا متبلا. رائحته تعيد إلي ذكريات الطفولة. كانت أمي تعده لنا فطور ثاني أيام عيد الأضحى، كان طعمه ولا زال في فمي كأول يوم أكلته فيه، حتى أني لا أزال أذكر أننا بعد أكله صرنا نضحك بشكل هستيري على أتفه الأشياء فحكمنا يومها أن الخروف كان يأكل الحشيش قبل وفاته! منذ ذلك اليوم وتناوله مصدر بسمة وسعادة عندي.
بدأت ألتهم اللقمة بعد اللقمة متلذذا بمذاقه الرائع، وحين أنهيت الطبق بدأت تظهر أمام عيني صور متتابعة لرجل لا أعرفه، بدأت أجول ببصري بين الصور لنفس الشخص، يبتسم لي ويركض معي، يضمني ويطعمني، مهلا يطعمني التبن! بدأت أفرك عيني وأنا غير مصدق لما أراه، هل تراه المخ مجددا؟ أهي ذكريات الخروف؟ يبدو أني جننت حقا. فقلت في نفسي "لا بد أنهم يعدون الطعام بنوع من الأعشاب يصيب المرء بالهلاوس، هذا ما اختارته لي قدماي!". حاولت شرب الماء والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن ما إن أغمض عيني حتى تلوح الصور مجددا، أعدت الكرة تلو الكرة، فاستسلمت أخيرا وقررت عيش ذكرياته تلك.
بدأ الأمر منذ ولادته، كان وجه ذاك الشخص أول وجه يراه، يبدو أن أمه توفيت بعد ولادته مباشرة فتكفل بتربيته، رأيت قارورة الحليب التي كان يرضعه بها، وسمعت التهويدات التي كان يغنيها له، وحين صار يقوى على العدو كان مسابقه، وعندما مرض أحضر له الطبيب وظل طوال الليل معه كل مرة يربت على ظهره ويضمه إليه، حتى من رائحته استنشقتها. عجبا لهذه الذكريات وكأنها حقيقية.
استمررت في الغوص بين ذكرياته حتى وصلت ليوم ماطر، كان الرجل ليلتها في الزريبة بعد أن أطعم خروفه الوحيد، اتجه لوضع الطعام للأبقار قبل أن يغادر للنوم. فدخل شخص آخر يرتدي معطفا واقيا من المطر، فسأله صاحب المزرعة:
- من أنت وماذا تريد؟
رفع الزائر غطاء رأسه، فتجهم صديق الخروف فصاح:
- أخبرتك مرارا أني لن أبيع المزرعة ارحل من هنا
استدار ليكمل ما كان يفعله، فأخرج الرجل المجهول سكينا من جيبه وقال وهو يطعن به صاحب المزرعة طعنات متتالية:
- إن كنت لن تبيعها برضاك فستبيعها رغما عنك.
كان صاحب المزرعة يئن من غرزات السكين في ظهره على نغمات الرعد وزخات المطر وخوار الأبقار وثغاء الخروف الخائف على صاحبه، أقدامه تضرب السور الخشبي وعيناه على مربيه لا تفارقه. وبعد لحظات لفظ أنفاسه الأخيرة، أخرج القاتل ورقة وبصم بأصبع الضحية عليها بعدها أخذ المعول وبدأ بحفر حفرة كبيرة ألقاه فيها مع أداة جريمته وردمها مع كل حبة تراب كان بها دمه، وختاما أحضر دلوا من الماء وأفرغه على الأرض ففاحت رائحة الطين دون أن تفلح في التغطية على رائحة الدم التي كان يشمها الخروف. وحين انتهى الجاني التفت يمينا ويسارا وغادر بابتسامة نصر محقق. ظل الخروف طوال الليل ينظر لصاحبه تحت التراب رغم ثغائه الحزين كل حين وضربه الأرض بحافره لم يخرج من حفرته، فنزلت دموع ساخنة على خدي فحركني النادل قائلا:
- ها هي الكفتة سيدي
فتحت عينيَّ فانتبه لدموعي فسألني:
- هل تراني وضعت الحار في الأكلة دون قصد.
ابتسمت له وقلت ماسحا دموعي:
- لا بأس إنه لذيذ
غادر راضيا، فانتبهت لنفسي، ما الذي حدث لي؟ ألمستني مشاعره كما ذكرياته؟ بدأت أنظر لصحن الكفتة وأنا فزع من أن آكلها وأحس بآلام السكين والمفرمة فعدلت عن أكلها، وقمت لأدفع ثمن وجبتي. وأنا أمام الجزار تبادر لذهني سؤال علي أستبين به ما يحدث معي:
- إن المخ شهي حقا، من أين حصلت على الخروف؟
فقال:
- من المزرعة المجاورة، باع المشتري كل ما فيها، فاشتريت منه خروفا وبقرتين منذ ثلاثة أيام، ظل الخروف طوال الوقت معرضا عن الطعام والشراب فخشيت أن يموت فقلت أن أذبحه وأستفيد منه.
فقلت مستفسرا:
- قلت المشتري، إذن لم يكن صاحب المزرعة الحقيقي؟
فأجاب:
- نعم المهندس رضوان هو صاحب المزرعة لقد باعها قبل رحيله عن المنطقة.
شكرته ثم دفعت المبلغ واكتفيت بهذا القدر حتى لا أحرك شكوكه نحوي.
تقدمت نحو السيارة لأكمل طريقي، لكن منظر الرجل المغدور ظل يطاردني، فقررت التوجه نحو المزرعة دون أن أعرف ما سأفعله هناك.
بدأت أسأل طول الطريق عن وجهتي، فلولا الاسم الذي قاله الجزار لكنت في حيرة عما سأسأل عنه تحديدا، وكأنني سأقول لهم "دلوني على صاحب الخروف الذي أكلت مخه وأصابني بالجنون!"
بعد مسافة نصف ساعة وصلت للمزرعة. بدأ قلبي يخفق، وكأني أعرف المكان جيدا، بدأت الصور تتعاقب أمامي فترجلت من السيارة، وبدأت أتبع الصور حتى وصلت للزريبة.
- من أنت يا سيد وماذا تريد؟
صاح صوت خلفي فاستدرت فإذا به القاتل! تمالكت أعصابي وابتسمت مرغما وقلت:
- مرحبا يا سيد، أنا مروان من تهاتفت معك قبل أسبوعين.
رفع حاجبا وأخفض آخر وقال متسائلا:
- من مروان؟
فقلت متداركا:
- ألست أنت السيد رضوان، كنا تحدثنا عبر الهاتف لم يسبق والتقينا من قبل.
مددت يدي للسلام، فسلم بدوره واسترسل في لعب دور رضوان ليفهم مني الموضوع، فدعاني لدخول بيته قائلا:
- يبدو أن طريقك كانت طويلة، أدخل لتستريح قليلا وتتناول بعض الطعام بعدها نتباحث عن الأمر الذي تحدثنا عنه.
أجبت دعوته قائلا:
- لا بأس عندي بكأس شاي فقط، فقد تناولت غذائي قبل الحضور إليك.
رحب بالأمر وها أنذا في الصالة أمام صينية فضية مزخرفة وكؤوس من بلور مع إبريق فضي منقوش بشكل جميل جدا، سكب لي كأس شاي، ثم قال وهو يقدمه إلي:
- ذكرني يا سيد مروان بمهنتك.
فقلت بعد أن شكرته:
- أنا منقب عن الألماس
ضاقت عيون المضيف وقال مستفهما:
- وماذا تفعل في مزرعتي؟
فقلت متهكما:
- تبدو أشغالك كثيرة حتى أنستك أنك من طلبت حضوري لأنقب عن الألماس في مزرعتك بعد أن عثرت على قطعة صغيرة بها.
شخصت عيونه هذه المرة، طأطأ رأسه قليلا ثم رفعه وشرب من كأسه ثم قال:
- أه تذكرت، حقا كما قلت كانت أيامي الأخيرة حافلة بالمصائب، حتى أني بعت كل ما أملك في الزريبة من أبقار.
ابتسمت وقلت مطمئنا:
- لا تقلق ستعوض كل خسارة حين أتم عملي.
ابتسم مؤيدا وقال:
- حسنا متى ستبدأ؟
قلت:
- يلزمك إحضار أربعة أشخاص أشداء للحفر، أما عملي فسهل بإذن الله.
وما هي إلا ساعة حتى كان الرجال أمامي، فاستأذنته لأحضر عدتي من السيارة، لحسن حظي أني استعرت سيارة صديقي جمال، هو متيم بالبحث عن الكنوز ويستعمل البندول لذلك، ولطالما يترك واحدا في سيارته، استخرجته فاستغرب مضيفي حين رآه دون أن يعلق.
بدأت أحرك البندول وأتمتم بكلمات غير مفهومة تحت أنظار الجميع وأتجول في المزرعة ثم وجهته نحو الزريبة فصحت:
- إنه هنا في هذا المكان.
رأيت وجه القاتل قد تجهم لكنه لم ينطق بكلمة، وحين دخلنا بدأت دقات قلبي تتسارع كما أول مرة وصلت فيها للمزرعة، فهدأت من روعي وقلت:
- سيد رضوان، هلا أحضرت كأس البلور من البيت؟
فأكملت بنبرة واثقة بعد أن رأيت الحيرة علت وجهه:
- أحتاجه لتقوية الطاقة حتى لا نحفر الزريبة كلها
رضخ للأمر وسار نحو بيته مسرعا، فبدأت صورة مكان القبر تتضح أمامي فاتجهت مسرعا نحوها أصيح:
- هنا يا رجال قوموا بالحفر
بدأوا بالحفر، وما أن عاد القاتل حتى صرخ أحدهم:
- ما هذا؟
التف الجميع فلمحوا أصابع يد تحت التراب، فأخرج أحدهم هاتفه وقال:
- سأتصل بالشرطة إنها جثة أحدهم.
أسقط منتحل شخصية رضوان الكأس من يديه وبدأ يتلعتم ويقول وكأنه متفاجئ:
- جثة ماذا؟ جثة من؟
بدأت أصرخ وأنا أتجه خارج الزريبة:
- يا ناس لقد وجدنا جثة هنا ..
كانت نيتي أن أجمع أكبر قدر من الشهود حتى لا يقدم على الفرار أو قتلنا جميعا للتستر على جريمته. وفعلا تجمهر عدد من الناس كل منهم يتساءل عن القتيل وهوية القاتل، ولم تمض ساعة حتى جاء رجال الشرطة وأحاطوا المكان.
تم الحفر من طرف رجال الشرطة وأخرجوا الجثة، ما إن لمحته حتى اغرورقت عيناي بالدموع، هذا الخروف يتعبني حقا! أخرجوا أيضا أداة الجريمة و طلبوا منا جميعا الذهاب معهم قصد التحقيقات.
ظللت هناك لأسبوع وأنا في سين وجيم، لم أستطع قول دافعي الحقيقي فما كانوا سيصدقونني، أنا بنفسي لا أستوعب للآن ماذا يحدث معي! اكتفيت فقط بقولي الذي يعرفه جميع الحضور عني وحمدا لله أني ذكرت اسمي الحقيقي منذ البداية. وما إن ظهرت البصمات حتى حصحص الحق وتم الامساك بالمدعو كمال لاقترافه جريمة قتل في حق السيد رضوان. تم إخلاء سبيلنا نحن الخمسة وتم شكري بطريقة غير مباشرة أني كنت سببا في كشف الحقيقة، ونصحوني بالاقلاع عن خزعبلة البحث عن الكنوز تلك حتى لا أورط مجددا في قضية أخرى، لا بد من حضور صديقي جمال ليسمع هذه النصيحة القيمة!
لم يكن للمرحوم أهل، فتكفل أهل القرية بجنازته فتم دفنه بحضور كل من كانوا يحبونه، وبعد انتهاء المراسم، ظهرت صورته مبتسما بغبطة ثم بدأت تتلاشى شيئا فشيئا حتى اختفت، علمت حينها أن الخروف ارتاح أخيرا وسيريحني.
لن أنكر أني أحسد الرجل على صديق وفي كهذا الخروف، ظل وفيا له حتى بعد أن فاضت روحه! أسأل الله أن يرزقنا بأصدقاء أوفياء يشاركوننا الطريق.
ركبت سيارتي واتجهت نحو مقصدي وكلي أمل بالحصول على عمل أنال منه الرزق الحلال والرفقة الصالحة.
النهاية