@لا تحتمل خفته
السلام عليكم و رحمة الله و تحية طيبة؛
** وعليكم السّلام أخي المُحترم والدّارس الفذ والباحث الأكاديميّ الذي لا يُشقّ له غبار، أسعدتني رُؤية سطورك
ـــــــــــ
لدي سؤال اعتبره مهم و هو: كيف ندرس اللغة العربية؟
سأحاول الاجابة عنه بالطريقة التي اراها مناسبة و بعدها اريد ان اعرف رأيك الخاص، لانك حتما في موقع افضل للاجابة على هذا السؤال: تربوي و متخصص في اللغة العربية.
ـــــــــــ
اولا لماذا سنضع سؤال مماثل؟ يعني ما المشكل في الطريقة التي ندرس بها اللغة حاليا؟
بالنظر الى المستوى الذي نرى عليه اليافعين و البالغين على حد سواء، و كيف يعبرون و يتفاعلون باللغة العربية، يمكننا الجزم ان هناك مشكل ما، و ان الاشكال ليست مجرد انخفاض المستوى التعليمي بشكل عام و انما هناك خصوصية تتعلق بدرس اللغة العربية.
** هنا أختلف معك أخي؛ فانخفاض المستوى التّعلميّ هو ما انبثق عنه عدم الاهتمام بتدريس اللغة العربيّة كما ينبغي لها، وما الذي جعل للغة العربيّة مُمتهنة إذا لم يكن المستوى التّعليميّ الذي نحن كلّنا تحت سطوته؟ إذا تابعنا المدرسة لجزائريّة - مثلا - تاريخيّا لوجدنا فجوة وهُوّة سحيقة بين المدرسة القديمة - على بساطتها - والمدرسة الحديثة - على فجاجتها - فالمدرسة الحديثة ادّعت ادعاءات في مناهجها تناقض طبيعة التّعليم أوّلا مثل تخفيض السّنّ الذي يسلب الطّفل أخصب مرحلة في حياته وهي مرحلة الاكتشاف التي تتطلّب عالما مفتوحا وحبسته بين جدران القسم الضّيّقة، ثمّ المناهج التي تدّعي أنها ستجعل من (المتعلّم) قادرا على التّعامل ياللغة مع المواقف في حين سلبته حتى القدرة على (استعمال اللغة) وأنا أحبّ دائما الرّجوع إلى الواقع بعيدا عن النّظريّات والكلام الأكاديميّ الذي لا يثبت جدارته إلّا إذا كان خادما للواقع منطلقا من احتياجاته، فتلمي السّنة الخامسة أساسي كانت له ملكة تعبير حرفيّا بينما لا نجد ذلك الأمر عند تلميذ الباكالوريا اليوم !
وكأنّ المدرسة الجزائريّة اليوم تقول إنّ كلّ ما أقرّته الدّراسات الإنسانيّة أمرٌ لا يخصّها ولا يرتقي إلى طموحاتها!!
أما الخصوصيّة التي تميّز الدّرس اللغويّ العربيّ فهي أمر لا يختلف فيه اثنان؛ فلكلّ درس لغة خصائصها ولكلّ مادة ذلك، أمّا إهمال الخصوصيّات فراجع إلى" السيستم “ كما أحب تسميته، واقرأ بعض ما أورده ”ديوي" في الدّيمقراطية والتّعليم إن شئت، فأنا أعرف ميلك إلى كلام الأكاديميين والمتخصّصين وهذا أمر جيّد فيك، فقد فصّل في التعليم حاجة إنسانيّة وحاجة اتماعيّة وحتى مفهوم سياسيّ.
إن خصوصيّات اللغة العربيّة تتطلّب ما كان معهودا قبل مجيء مفهوم ( المدرسة الحكوميّة) فالطالب كان يتفرّغ لها حرفيّا يتتلمذ على يد شيوخه أعواما قبل إن ينصرف إلى علم آخر . أمّا المدارس الحكوميّة فلم توفها حقّها (مع أنّنا لا ننكر أنها اجتهدت في مراحل معيّنة)
في نقاشنا السابق وضعت سؤال: "ما الذي نريده من التعليم؟ و ما الهدف من ارسال الاطفال الى المدرسة ل13 موسم متتالي؟" الغرض من هذا السؤال هو بناء قطاع تعليم بالنظر للاهداف التي نريد تحقيقها و ليس العكس، انها نظرة Top Down يعني ان ننطلق من الغاية النهائية ثم على اثرها نصمم النموذج التربوي.
** معك حقّ، فلماذا نعيش في عالم الأحلام الورديّة على الأوراق، بينما نهمّش الواقع الذي ندّعي أنّنا ننطلق منه،
أخي إسماعيل: اقرأ مناهج التّعليم الابتدائي ، ثم قارن ما تجده بالواقع وستعرف حجم الأزمة التي يُعاني منها التّعليم (تناقض صارخ)
اتصور انه و بنفس التمثل، يجب ان نقارب مسألة تدريس اللغة العربية، لنضع السؤال التالي:
ما هو المستوى الذي نريد من طلبة الجامعة ان يكونوا عليه بخصوص اللغة العربية (بغض النظر على التخصص)؟
مثلا ان يكون الطالب قادر على التحدث بطلاقة بالعربية، التعبير عن افكاره الخاصة سواء اكانت علمية اجتماعية تربوية، قص و سرد احداث حصلت له في الماضي، الدخول في نقاشات محتدمة و امتلاك القدرة على اعتصار الفكرة و الترافع عن وجهة نظره الى اخر قطرة، كتابة تقارير علمية دقيقة و بلغة مركزة بدون اطناب، و انشاء محتوى صوتي و فيديوهات مباشرة باللغة العربية.
شيء مثل هذا سيكون كافي بالنسبة لاي طالب جديدة حصل للتو على الباكالوريا (الثانوية العامة) بان يجعله يلج الاكاديميا او التخصص التقني بكل اريحية و الذهاب بعيدا فيه.
طبعا هذه الغايات هي ما اراه مناسبا و حتما كل شخص يملك في فكرة في راسه عما يجب ان يكون عليه تلميذ السنة الثالثة ثانوي.
صحيح، هذا أقلّ ما يجب أن يكون عليه الطّالب العربيّ، ولكن للأسف الأمر على أرض الواقع مختلف تماما، فقد فصّلت في الأمر في معرض إجابتي عن تساؤل للأخ عبد الله حول علاقتي باللغة العربيّة، وقلت أننا شئنا أم أبينا فإن النّظام التعليميّ يطبع الطالب ويغيّر أولويّاته، فالطّالب الذي درس في ظلّ نظام تعليميّ متناقض جعله يركض وراء النّقطة لاهثا فقط للانتقال إلى القسم الأعلى، سيجد الجامعة تستقبله وهي تراعي (بساكته الفكريّة وعدم إلمامه بأبجديّات اللغة) فيواصل رحلته التي تدعو إلى الشّفقة في البحث عن النّقطة على حساب أمر عظيم كاللغة العربيّة.
بعد تحديد هذه "الكفايات" اللغوية، يمكن ان نعبر الى تحديد مثيلاتها بالنسبة للسنة الاخيرة في الاعدادي، ثم الابتدائي نزولا الى اول سنة دراسية في التعليم الاساسي. القيام بشيء مماثل سيجعلنا نملك صورة واضحة لما يجب ان يكون عليه درس اللغة العربية.
شخصيا حينما قمت بهذه العملية (مرارا و تكرارا) وصلت لنتيجة مفادها اننا لسنا بحاجة للدرس اللغوي في تدريس اللغة العربية، و انه على العكس تماما، فالدرس اللغوي ليس فقط اضاعة للزمن الدراسي و انما ايضا هو يؤثر بالسلب على عملية التعلم.
و لئلا يفهم كلامي بشكل خاطئ الدرس اللغوي مهم، في تخصصات مثل القانون التشريعي و الدستوري و الفقه و التفسير و الترجمة و التحقيق اللغوي و بعض (و ليس كل) التخصصات الصحفية و الاعلامية، لكنه يبقى تخصص نخبوي للغاية و ليس من المفيد الزام المجتمع كله به، و خصوصا و نحن نتكلم عن اللغة العربية، و التي تستعصي القواعد و القوانين، فكما يقال اللغة العربية هي موسيقى و ميزان سماعي أكثر من اي شيء اخر، و العرب قديما كانت تتقن حرفة الشعر بالممارسة، عيشا (حياة البداوة) و تأملا (الخلوة و الصيد) و أجرأة (الإلقاء و المبارزة الشعرية). هكذا كانت تتولد الموازين الموسيقية الشعرية و تصقل قريحة الشاعر و تعزز فحولته، و ليس بالحفظ و التلقين و الاهتمام بالقواعد، لان التمرس على الميزان و تشربه سيختصر معرفة الف قاعدة و قاعدة، و لا يخفى عليك قول العرب قديما لمن يخطئ في التعبير "لقد لحنت" و اللحن هنا و معناه الخروج عن الميزان الموسيقي، و بلغتنا اليوم: خطأ لغوي.
دعني أوّلا أفهم ما الذي تقصده “ بالدّرس اللغويّ” أرجو أن توضّح هذا في مداخلات قادمة إن شاء الله، فإن كنت تقصد المعروف والمتعارف عليه بين أهل اللسانيّات عامّة، فدعني أوّلا أخوض معك في الأمر من مسألة جدوى الأمر بالنّظر إلى الحاجة إليه
فالحاجة إلى الدّرس اللغوي ليست حديثة بل هي قديمة (أتحدّث عن اللغة العربيّة) فرضتها الحاجة إلى تقويم الألسن لمّا بدأ اللحن يتسلّل إليها ) وهذا من قبيل المحافظة على اللغة العربيّة في ذاتها كما هي) فإن كانت العرب قديما تُمارس اللغة بالسّليقة فالأمر قد اختلف والعوامل الخارجيّة قد تغيّرت، فقد احتكّ العربيّ بالأجانب، أضف إلى ذلك ما كان من اختلاط الألسن الذي فرضه إقبال الأعاجم على العرب للتجارة والدّراسة وفهم الدّين وغيرها…. كل هذا جعل العرب يستنفرون لوضع “ قواعد النّحو والصّرف ويفصّلون في البلاغة والعروض" وغيرها من علوم اللغة العربيّة مراعاة للمدعاة ودرءا للّحن، أمّا العربيّ الذي تقصده فهو (ابن بيئته) كما ذكرت فالبيئة المفتوحة والحياة البسيطة ستساهم في صنع الشّاعر الذي يصف بدقّة مثل امرئ القيس، ولكنّ العوامل تغيّرت، وأصبحت العناية بتدريس القواعد ضرورة مُلحّة أخي إسماعيل، وهي قواعد مستمدّة من القرآن الكريم والحديث النّبوي الشّريف ثم كلام (أقحاح العرب) أقصد القبائل الستّة التي أخذت عنها اللغة العربيّة، فلو نظرنا إلى العناية البالغة التي أحتط بها المتقدّمون الدّرس اللغويّ لبطل العجب .
إذن بدل بناء حصة اللغة العربية على القواعد و التصريفات و النحو و ما الى ذلك، سيكون من الجدير استثمار الزمن الدراسي كله في التعبير و القراءة و الكتابة صعودا و نزولا مرات و مرات و مرات، فنستفيد من تشرب الاطفال لميزان اللغة العربية، كما نستفيد من مواضيع المتن المدروس.
لا تزال هناك نقطة او نقطتان في هذا الصدد، لكن اريد ان اسمع رأيك فيما وصلت اليه لانك تملك التجربة و زاوية النظر خاصتك حتما ستكون افضل.
ذلك أمر عظيم لو أنّنا نستطيع الوصول حقّا إلى تلك المرحلة ( مهما أخلصنا وعزلنا تدريس اللغة العربيّة عن كل الاعتبارات السّياسيّة وغيرها ) ولكنّه شرّ لابدّ منه أخي إسماعيل، فإن كان المتقدّمون قد جعلوا نصيب لأسد لتدريس القواعد ( حتّى أنّ منهم من مات في سبيل ذلك حرفيّا) فكيف بنا نحن أصحاب ( بقايا لغة عربيّة)
أصلح الله أحوالنا ورزقنا الإخلاص
تحياتي استاذ.
تحيّاتي لك أخي وشكرا على مُداخلتك الطّيّبة