يوم شاء الله -وله الحمد- لهذه اللغة الشريفة أن تكون لغة القرآن الكريم، تتلى بها الآيات، وتزكى بها الأنفس، ويعلم بها الأميون الكتاب والحكمة، كان ذلك -في الوقت نفسه- إيذانا بأمرين اثنين:
- أولهما: حرب شعواء – لم تقف ولن تقف – على هذا اللسان المبين، كيف لا، وهذه اللغة هي الرباط المتين الذي يشد بعض أبنائها إلى بعض، ويصل مشرق هذه الأمة بمغربها، وحاضرها بمستقبلها، وقد شهدنا نماذج من هذه الحرب الدائرة على العربية، بدءا من هجمات الشعوبيين ومكرهم عبر التاريخ، وانتهاء بمعاول المغرضين والمناوئين والمتربصين بالعربية الدوائر، عليهم دائرة السوء!
- وثانيهما: فتح باب من العناية بهذه اللغة – لم يغلق ولن يغلق – إذ أن علوم العربية على اختلافها إنما نشأت في رحاب القرآن الكريم حفظا له، ورواية لقراءاته، ودراية بمعانيه، وفهما لدلالاته، وتذوقا لبلاغته، ووقوفا على أسراره وخباياه، ووصولا إلى تلمس وجوه الإعجاز فيه.
ومن هنا أن قال كثير من الباحثين في علوم اللغة: "لولا القرآن ما كانت العربية".
كان العلم بالعربية أساسا لكل من أراد الإلمام بعلوم القرآن الكريم تفسيرا وتأويلا، ونحوا وإعرابا، وقراءة وتجويدا، ووقوفا على الغريب، ومعرفة بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمفصل، والعام والخاص
القرآن مفتاح العربية
القرآن مفتاح العربية، فبه عرفت، وبه انتشرت، وبديمتِـه اهتزت وربت، ولخدمته أينعت وأثمرت، من أجله نشأت علومها، وتنوعت فنونها، وباصطفائه لها شرفت ونبهت وانتقلت من المحلية إلى العالمية، ومن القبلية إلى الأممية، فغدت لغة الأمة الإسلامية.
- يقول الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات:
"فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم..".
ومن ثم كان العلم بالعربية أساسا لكل من أراد الإلمام بعلوم القرآن الكريم تفسيرا وتأويلا، ونحوا وإعرابا، وقراءة وتجويدا، ووقوفا على الغريب، ومعرفة بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمفصل، والعام والخاص… إلخ.
وسأكتفي -في هذا المقال- بعرض جانب من علوم القرآن الكريم، وهو علم غريب القرآن لندرك العلاقة الوثيقة بينه وبين علوم العربية.
كل علم من علوم اللغة إنما نشأ في كنف القرآن ورحابه، وفي سبيل خدمته وفهمه وإقامة حروفه وتراكيبه ومبانيه ومعانيه، ومن تتبع تاريخ هذه العلوم ونشأتها والأخبار التي رويت في ذلك وقف على نوادر وطرائف تشهد بهذا وتؤكده.
غريب القرآن
مع نزول القرآن الكريم منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرسول أول مفسر لكتاب الله عز وجل ولا غرو فهو المعلم الأول لصحابته رضوان الله عليهم يتلو آيات القرآن الكريم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويلقنهم تفسيره. واقتدى بهديه كبار الصحابة فكانوا من بعد المعلمين والمفسرين، على أن أبرزهم في هذا الميدان كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اختصه الرسول بدعائه المشهور:
"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فكان حبر الأمه وترجمان القرآن، وغدا مرجع الصحابة والتابعين ومفزعهم، وما أكثر ما حمل لنا التاريخ من أخبارهم يسألونه عن مسائل أبهمت عليهم في كتاب الله عز وجل، فيكون جوابه حاضرا ودليله شافعا، وقد اختط لنفسه في هذا منهجا يدل على حذقه وسعة علمه، إذ عول في تفسيره على كلام العرب، وأشعارهم، وكان يقول: "الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله اللَّه بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه".
ويقول أيضا: "إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب".
ولا أدل على منهجه هذا من أسئلة نافع بن الأزرق له، وهي الأسئلة التي اشتهرت بمسائل نافع بن الأزرق، ورويت من غير ما طريق وصنف فيها غير ما مصنف، ولعل أجود نشرة خرجت بها مجموعة، تلك التي نهض بها الأخ الصديق الأستاذ الدكتور محمد الدالي -رحمه الله- إذ حقق هذه المسائل من أقدم نسخة محفوظة تعرف لها، وجمع لها مالم يرد في تلك المخطوطه مما تفرق في بطون المصادر والمراجع فبلغت عنده 287 مسألة نورد فيما يلي نماذج منها:
- "قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) [الرحمن:35] ما الشواظ؟
- قال: اللهب الذي لا دخان له.
- قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك من قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم؟
- قال: نعم، أما سمعت قول أميه بن خلف، وهو يهجو حسان بن ثابت، وهو يقول:
ألا مَنْ مبلغٌ حسانَ عني .. مغلغلةً تدبُّ إلى عكاظِ
أليسَ أبوك فينا كان قينًا .. لدى القيناتِ فَسْلًا في الحفاظِ
يمانيًّا يظلُّ يشبُّ كِيراً .. وينفخُ دائباً لهبَ الشواظِ
فأخبرني عن قول الله عز وجل: (وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ) [الرحمن:35] ما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب فيه. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت بقول النابغة:
يضِيءُ كضوءِ سراجِ السليــ .. ـطِ لم يجعلِ اللهُ فيه نُحَاسا
يعني دخانا. قال: صدقت.
فأخبرني عن قول الله عزي وجل: (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان:2] ما الأمشاج؟ قال: هو ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا في الرحم كان مشيجا. قال وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي:
كأنَّ النصلَ والفُوقَينِ منها .. خِلافَ الريشِ سِيطَ به مَشيجُ
فجالَتْ فالتمستً به حَشَاها .. فخَرَّ كأنَّـهُ خُوطٌ مَـريجُ
ومن طريف هذا الخبر أن المبرد روى هذه النهاية له في كتابه الفاضل: وتحدث عمر بن شبة قال: بينما ابن عباس فى المسجد الحرام وعنده ناس من الخوارج وابن الأزرق يسائلونه، إذ أقبل عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة فقال: أنشدنا، فأنشده:
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ .. غداةَ غَدٍ أمْ رائحٌ فمُهَجِّرُ
حتى جاء على آخرها. فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: تالله يابن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصى البلاد لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل علينا، ويأتيك مترف من مترفى قريش فينشدك:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت .. فيخزى وأمّا بالعشىّ فيخسَرُ
- فقال ابن عباس: ليس هكذا. قال: فكيف قال؟: فأنشده:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت .. فيضحى وأمّا بالعشيِّ فيخصَرُ
- فقال: ما أراك إلا وقد حفظت هذا البيت، قال: نعم! وإن شئت أن أنشدك القصيدة كلها كما [أنشدك] أنشدتك، قال: نعم، فإنى أشاء، فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على عمر فقال: أنشد، فأنشده: تشطُّ غدًا دارُ جيرانِـنا
- فقال ابن عباس: وللّدارُ بعدَ غدٍ أبعدُ
- فقال: كذا قلت! قال: كذا يكون- إن شاء الله- فاضطرب ابن أبى ربيعة وخجل، فقال له ابن عباس: إنما عنيت أنك أنت قلته، قال: يا عم، فكيف علمت؟
- فقال: لا يكون بعد هذا إلا ذا.
إن دلالة هذا الخبر لا تقتصر على الاهتمام بغريب اللغة ونشوء المعجمات، وهو اهتمام قديم دعا إليه كبار الصحابة من قبل، وتبدى ذلك في كثير من أقوالهم، كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى، ومساوئ تتقى، وحكمة الحكماء، ويدل على مكارم الأخلاق".
وروي أنه كتب إلى أهل الأمصار: «أن علموا أولادكم الفروسية والعوم، ورووهم الشعر».
بل تتعدى ذلك إلى عدة أمور أهمها:
- أولا: مبلغ العناية التي كان ابن عباس يوليها للعربية ولفن من أعظم فنونها وهو الشعر.
- ثانيا: عدم تحرجه من إنشاد الشعر واستنشاده في بيت الله الحرام.
- ثالثا: رسم منهج لعلمين من علوم العربية، أولهما: علم غريب القرآن، وثانيهما: علم المعجمات.
بين علوم القرآن وعلوم اللغة العربية ترابط محكم فمهما تتقن من علوم العربية وأنت خاوي الوفاض من علوم القرآن فعلمك بها ناقص
علوم العربية الأخرى
وكذا كان الحال مع سائر علوم العربية من نحو وصرف وتجويد وأصوات وقراءات وبلاغة، وغيرها، فكل علم من هذه العلوم إنما نشأ في كنف القرآن ورحابه، وفي سبيل خدمته وفهمه وإقامة حروفه وتراكيبه ومبانيه ومعانيه، ومن تتبع تاريخ هذه العلوم ونشأتها والأخبار التي رويت في ذلك وقف على نوادر وطرائف تشهد بهذا وتؤكده.
وفي هذا يقول أستاذنا الأستاذ سعيد الأفغاني رحمه الله: "بين علوم القرآن وعلوم اللغة العربية ترابط محكم فمهما تتقن من علوم العربية وأنت خاوي الوفاض من علوم القرآن فعلمك بها ناقص وهي الأساس وقدمك فيها غير ثابته، وتصورك للغة غامض يعرضك لمزالق تشرف منها على السقوط كل لحظة، وسبب ذلك واضح لكل من ألم بتاريخ العربية، فهو يعلم حق العلم أنها جميعا نشأت حول القرآن وخدمة له".
https://www.aljazeera.net/blogs/2024/5/27/%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D9%85%D8%A7-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9