مرت عشر سنوات على زواجهما، دون أن يتكلل بحمل يغدق على قلبيهما الفرح، لكنهما كانا صابرين محتسبين وفي نفس الوقت منتظرين للفرج من الله. وفي يوم اقترحت عليها جارتها أمر التلقيح الصناعي، كان الأمر مكلفا جدا حينها، وهما غير مقتدرين كفاية لتحمل المصاريف، لكن شوق رنا للأبناء دفعها لتطلب من زوجها ذلك. وفي ليلة باردة قالت لزوجها وهما يتناولان عشاءهما:
- عمار في حديثي مع الجارة اقترحت علي أمرا قد يساعدنا في الحمل.
انتبه عمار لها، وسألها عنه إن كان باستطاعته لن يتأخر عنها، فقالت:
- أعرف كرمك يا عمار، لكن الأمر مكلف جدا.
نظر إليها باستفهام، فأكملت:
- التلقيح الصناعي
طأطأ رأسه فأكملت:
- هلا حاولنا، وما دامت نيتنا جيدة فسيساعدنا الله في تدبير المال.
قبل الأمر، وعزم على التدين من كل معارفه حتى يحصل المبلغ. وهي أيضا قدمت له ذهبها وطلبت منه بيعه. وتم الأمر بإذن الله.
تكللت العملية بالنجاح فحملت رنا بتوأم، كم سعدت بالخبر، فشكرت الله على عوضه ورزقه إياها باثنين بدلا من واحد. مرت أشهر الحمل صعبة عليها، لكنها كانت طوال الوقت صابرة محتسبة منتظرة للحظة التي ستحملهما فيها بين يديها. وهاهي اللحظة قد حانت، ما أقوى آلام المخاض، احتسبتها لله مغفرة ورحمة لها. فما أنساها الألم إلا احتضانها لصغيريها فقالت والدموع تنهمر من عينيها:
- حمدا وشكرا لك يا رب حمدا وشكرا لك يا رب .
قبلتهما بكل حب وامتنان، فصاح زوجها:
- دعيني أفرح بهما أيضا يا رنا.
حملهما أيضا واحتضنهما وقبلهما ولسانه لا ينفك من حمد الله وشكره على نعمته.
مرت ستة أشهر من التعب، كانت رنا تستعين بأختها كل حين لتساعدها، فحقا تربية التوأم ليست بالهينة، وخصوصا إن كان حقيقيا. بدأت الآن تهيئ لهما الطعام، كم كانت سعادتها بالغة وهي تطعمهما بالملعقة، رغم الصعوبة مجرد رؤيتهما يكبران أمامها ويتفاعلان معها ينتهي كل التعب. ولكم كانت سعادتها بالغة حين بدآ يحاولان إصدار بعض الأصوات "ب ب ، ت ت"" كانت تضحك مقلدة لهما، ومرة دخل عمار فوجدها على تلك الحالة فضحك وقال:
- أخشى أن تنسي النطق وأنت تقلدينهما طوال اليوم.
ضحكت وقالت:
- لكم أنتظر اليوم الذي سيناديان فيه ماما يا عمار.
ابتسم عمار وقال متهكما:
- أخشى أنك ستنتظرين طويلا
نظرت إليه باستفهام، فقال غامزا:
- سينادون بابا أولا.
ضحكت رنا من قوله، وقالت:
- سنرى يا عمار من سيطول انتظاره.
قاطعت بهجتهما صوت صافرة الانذار.
علم الجميع أن التجول بات ممنوعا، وأن المدينة مهددة بالقصف في كل حين.
نظرت رنا لعمار وصاحت:
- لقد انتهى حليبهما ولابد من إحضاره
صاح عمار:
- لا يجب علينا الخروج
لبست خمارها وقالت:
-لن أترك صغيري للجوع بسبب حتالة ممن يدعون نفسهم بشرا.
خرجت رنا للصيدلية كانت بعيدة شيئا ما، كانت طوال الطريق تمشي بجانب الحيطان حتى لا يظهر ظلها، وحين وصلت وجدت صاحبها يقفلها، فتوسلته أن يفتح لتأخذ حليبا تطعم به صغارها، فرق قلبه وأعاد فتح الصيدلية وأعطاها ما تريده، أخذت ست علب خوفا من استمرار الحظر لمدة طويلة، وهي تهم بالمغادرة سمعت صوتا مدويا، علمت أنها موت محتم لأشخاص لا ذنب لهم شهداء عند الله نحتسبهم. أكملت الخطى عائدة أدراجها فهالها منظر الرماد والهلاك إلى أن وصلت لتدرك أن عمارتهم قد نسفت. رمت العلب وبدأت تحفر بيديها الأنقاض تنادي بحرقة:
- عمار، علي، عاصم
تصرخ وتنادي ومن حولها ممن التفوا يبكون فقد عاشوا معها رغبتها في الانجاب، وفرحتها بذلك، وسهرها وتعبها وحتى أحلامها من أجلهم. اقتربت منها امرأة في الأربعين وأوقفتها وضمتها إلى صدرها لتطلق العنان لقهرها ينساب دموعا حارقة لا تطفئ القهر بل تزيده اشتعالا، فقالت المرأة:
- لقد فقدت صغيري في عمر الزهور، ابتلاء يا أختي اصبري واحتسبي إن موعدنا معهم الجنة.
تمالكت رنا نفسها وبدأت تدعو لها بالصبر والسلوان وتدعو لنفسها أيضا، دون أن تستطيع حبس دموعها.
مرت خمس ساعات وفرق الانقاذ تحاول جاهدة إخراج الجثث والبحث عن الأحياء، فلمحت رنا زوجها يخرجونه مع الرضيعان وقد مزقت أطرافهما، شهقت على ذلك المنظر وما إن وضعوا الجثث أرضا حتى هرولت نحوها وبدأت تضمهما وتبكي بحرقة على حالهما وتقول :
- عمار انظر ماذا فعلوا بقرة أعيننا، أنظر يا عمار عماااار
بكت بحرقة حالها حال كل ثكلى، لم يسمع في ذاك اليوم غير صوت البكاء والاستنجاد بالله لرفع الظلم عنهم.
وهي في المقبرة كانت جثة هامدة، تودع أحبابها للثرى دون أن تذرف دمعة فرددت:
بكاؤكما يشفي وان كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
بني الذي أهدته كفاي للثرى
فيا عزة المهدى ويا حسرة المهدي
وما إن أنهتها حتى انهمرت الدموع، دموعها ودموع المودعين لأحبابهم جميعا قديما وحديثا، فحسرة النفس لا ينطفئ لهيبها، والحزن سم قاتل.
قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا
حسبنا الله ونعم الوكيل
...
نصر الله إخواننا في فلسطين
ثلاثة يعز الصبر عند حلولها ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلاد تحبها وفرقة خلان وفقد حبيب
وهم قد ابتلوا بالثلاثة، نسأل الله لهم رباطة الجأش والصبر والسلوان
وغفر الله لنا التخاذل وقلة الحيلة