ليلة في المقبرة: قصة واقعية بقلمي
(لحظية).
في يوم جميل من أيام فصل الربيع، وبعد مرور أسابيع
طويلة من الامتحانات خلال مرحلة الدراسة الجامعية
المرهقة، قررت الهروب من صخب المدينة والاستمتاع
بالهدوء وجمال الطبيعة في رحلة جري إلى
قرية هادئة حيث كانت تقطن عمتي .
انطلقت وقدماي تحملاني بخطوات ثابتة وثقة،
وبدأت الرحلة بإيقاعٍ هادئ ومنعش. كانت الشمس
تشرق ببطء، وأشعتها ترسم الأفق البعيد بألوانٍ جميلة
ومشرقة. الطبيعة تفتح أمامي أبوابها بكل سخاء،
ألتفت هنا وهناك مستمتعا بكل تفاصيل الحقول
الخضراء.
وأنا أتقدم في طريقي، بدأت المناظر تتغير تدريجياً
حولي، وكلما اقترب من قرية عمتي، يزداد حماسي
وشوقي لرؤيتها. كنت أتخيل مشاهد القرية الهادئة
وشوارعها الضيقة ومنازلها البسيطة.
وبعد مضي خمس ساعات متواصلة من الجري، وصلت
أخيرًا إلى وجهتي، حيث كانت عمتي تنتظرني بابتسامة دافئة وترحيب حار.
" كيف حال العائلة ؟ هل الجميع بخير؟" مجموعة من
الأسئلة في حديثي مع عمتي كنت أجيب عنها وكأنني
سجين لحظات ، ثم أعربت لها عن سعادتي بالوصول
إلى هذا المكان الجميل والهادئ.
رحَّبت بي بابتسامةودية وقالت:
"مرحبًا بك يا بن أخي، كم أنا سعيدة
برؤيتك! كيف كانت الرحلة؟"
رددت بابتسامة: "الرحلة كانت رائعة، والطبيعة هنا
خلابة بالفعل. كنت أتطلع للهدوء والسكينة وهذا
بالضبط ما وجدته هنا، أين ابنك سعيد؟."
أخبرتني عمتي بأن سعيد ( ابنها البكر ) الذي تربطني
به بعض ذكريات الطفولة يرعى الغنم في الجبال
البعيدة، واقترحت علي أن أزوره وأعود رغم أن
المسافة طويلة. وافقت بسرور وقلت: "بالطبع، سأكون
سعيدًا بزيارته والحديث معه."
وهكذا، بدأت رحلتي نحو الجبال، وكلما كنت أقترب،
كان شعوري بالإثارة والتشويق يتزايد لاكتشاف هذه
المناطق البرية والمثيرة.
انطلقت كالسهم أجري بحذر على الطريق الوعر الذي يسلكه الغرباء بين أحضان الطبيعة الصامتة. كانت
الجبال الشامخة تظهر في الأفق، و المناظر الطبيعية
تصبح أكثر إثارة وغموضًا كلما تقدمت. وفجأة، وبينما
كنت أستمتع بألوان المراعي، شاهدت مشهدًا مثيرًا
للاهتمام. كانت مجموعة من الكلاب تُهاجم شاة بلا
رحمة، فأحسست بالقلق والخوف يتسللان إلى قلبي.
لم يكن لدي خيار سوى الهرب، فأسرعت لأنجو من
هجوم محتمل. وبفضل القدر، تمكنت من النجاة
بأعجوبة واتجهت نحو طريق كان يبدو أكثر أمانًا.
بعد أن تخلصت من ذهول ذلك المشهد وزال عني
التوتر، استأنفت رحلتي. كنت أتسلق الجبل، والتعب
يتسلل إلى كل عضلة في جسمي، ولكن الحماس
والرغبة في إكمال الرحلة يمنعاني من التراجع والتردد.
وبعد ساعات من الجري، وصلت أخيرًا إلى قمة الجبل،
حيث وجدت ابن عمتي يرافق قطيعه الصغير وكلبه
الوفي بالجهة الخلفية للجبل.
كان اللقاء مليئًا بالفرح والترحاب، والإطلالة
من تلك القمة ساحرة بالفعل، حيث يمتزج جمال
الطبيعة مع نسيم يهب بالمكان.
قضيت وقتًا ممتعًا مع ابن عمتي والقطيع، وتبادلنا
الحديث والضحكات، نتجاذب أطراف الحديث عن
ذكريات الطفولة التي مرت بنا ونحن تحتسي شايا تم
طبخه وسط إناء أسود فوق نار موقدة بحطب ينمو
بالمكان. وبعد استراحة ساعة، استأذنته لأعود لبيت
عمتي، لكنه طلب مني أن أبقى مع القطيع لحين عودته
من رحلة قصيرة لإحضار السجائر، وركب حماره ثم
انطلق عبر مسلك ضيق.
وهكذا مر اليوم وأنا أنتظر عودته بفارغ الصبر، منذ
منتصف النهار دون أكل، إلى أن بدأ الظلام يتسلل
ببطء إلى المنطقة المحيطة، فوجدت نفسي وحيدا مع
كلب صغير وقطيع مبعثر بجبل في مشهد يثير أكثر من
تساؤل. شعرت بالقلق والتوتر يعودان مجددًا . وفي
تلك اللحظة، كنت مترددا بين العودة للبيت بين مخالب
الظلام الدامس ومواجهة مخاطر الطريق، وبين البقاء
مع القطيع وأفكار تراودني عن لصوص يسرقون
القطعان بواسطة شاحنات. وبعد مرور وقت طويل
من الانتظار، تأخر ابن عمتي وفقدت الأمل في عودته، وكان الليل يعلو بظلامه وصمته المخيفين. جمعت
قواي وشجاعتي لأواجه التحديات القادمة، وسارعت
بجمع القطيع لأقوده إلى مكان المبيت بمساعدة الكلب
الوفي. كانت المسافة طويلة والطريق صعبًا، لكن
بفضل ذكاء الكلب ومهارته، نجحنا في إيصال القطيع
إلى وجهته بسلام. وعندما وصلنا إلى حضيرة المبيت
التي كانت عبارة عن مكان محاط بالأشواك بجوار
مقبرة قديمة، شعرت بالدهشة والخوف عندما رأيت
غرفة صغيرة بين القبور مسقفة بالخشب يحكى أنه
دُفنت فيها امرأة حية، وكان سرب من البوم يبيت فوق
سطحها. كانت الأساطير والقصص تتداول عن هذا
المكان، حيث تحكي العجائز أن امرأة تخرج من تلك
الغرفة في منتصف الليل وتعزف لحنا غريبا. بدأت
الخيوط المظلمة لحكايات الماضي تلف حولي بشكل
غامض. في تلك اللحظات، شعرت برجفة تسري في
جسدي، وكل صوت صغير كان يثير في نفسي القلق
والرهبة. ترك لي بن عمتي سيفا كنت أحمله بيد
ترتجف، وكلبه الصغير بجانبي، والحيرة تأخذني حول
الظروف الغريبة التي وجدت فيها نفسي . تلك الليلة
كانت من الليالي المظلمة والمرعبة، حيث تبادلت
الخوف والتوتر مع صوت البوم الغريب الذي كان يزيد
من شعوري بالرعب. وبينما كان القطيع نائمًا باستثناء
كلب الرعي الذي كان يتحرك بشكل متقطع، شعرت
بالتوتر والقلق من كل حركة غير مألوفة في هذا المكان
المريب. ومع مرور الليل، تهاوت الأفكار في مخيلتي
بين الخوف من الأساطير التي تحكى عن المقبرة وما
يمكن أن تخبئه، وبين الخوف من قطاع الطرق الذين
يسرقون الماشية. وتوالت خطى اللحظات يوقع رتيب،
و بدأت الليلة بالتحول إلى مرحلة أكثر غموضًا ورهبة. كنت أشعر بتوتر يتنامى مع كل دقة من ساعتي
اليدوية. أتوجس من كل حركة وصوت في الظلام،
وأتأهب لأي مفاجأة قد تظهر في هذا المكان الغامض
والمخيف. كل تصرف كان محل تأمل وحيطة. وسط
الظلام الكثيف والصمت المخيف، كنت أنتبه إلى كل
التفاصيل الصغيرة، محاولًا البحث عن أي علامة تنذر
بالخطر. وفي هذا الجو المشحون بالتوتر والخوف،
كان الكلب الوفي بالقرب مني، يترقب أي حركةكانت،
بينما القطيع كان نائمًا باستثناء عنزة كانت
تتصارع بين الحين والآخر مع الكلب الذي كان يبدو
هادئًا بشكل غريب. ومع حلول منتصف الليل، بدأت
أصوات الطبيعة تتزايد بشكل مخيف، وكل زقزقة
ونسيم هواء كان يثير في نفسي القلق والرهبة. كانت
اللحظات تبدو أطول وأكثر تشويشًا، والأفكار السوداء
تسيطر على عقلي. ولكن مع اقتراب وقت الفجر، بدأ
الظلام يتلاشى تدريجيًا، وكنت كلما نظرت إلى
الأكباش البيضاء أشعر بنوع من السكينة.
وما هي إلا لحظات حتى انجلى الظلام،
وبزغ نور ينشر الفرح والأمان،
كأنه غيث نزل من السماء. استيقظ القطيع ليبدأ يوما
جديدا، وشعرت بالراحة والطمأنينة تتسلل إلى قلبي
وأنا أقول في نفسي " الحمد لله قد أصبحت حيا"،
وضحكت من نفسي التي صدقت الأساطير. وفجأة،
ظهر ابن عمتي قادما من بين المنعرجات ممتطيا
حماره. حاولت أن أتحاشى الكلام معه ليعلم أنني
غاضب منه. "أعتذر كثيرا منك يا بن خالي، عندما
اقتنيت السجائر ، أخبرني البقال أن هناك حفل زفاف
بالقرية، فجلست مع بعض الرفاق من المدعوين للحفل،
فنسيت نفسي وقد أفرطت في احتساء الخمر ، ولم
أتمكن من العودة". "لا بأس أيها السكير، أشكرك كثيرا
على هذه الورطة المثيرة، أراك بخير". وانطلقت
مسرعا إلى بيت عمتي ومشهد الكلاب الضالة بين
عيني. فور وصولي، سألتني والحيرة تمتلكها: "لقد
قلقنا عليك، لم فضلت قضاء الليلة بتلك المنطقة
الموحشة ؟". حكيتُ لها ما حدث، فغضبتْ جدًا
ووعدتني بمعاقبة ابنها عند عودته. قدمت لي أنواعا
من الطعام وأمعائي تصرخ جوعا. كانت عمتي امرأة
قوية، تُحل جميع مشاكلها وهي تحمل عصا بيدها ،
خاصةً مع أيّ شخص يقترب من أرضها المخصصة
للزراعة.
ضحكتُ حينها، وطلبتُ منها العفو عن ابنها. وقضيت
معها يومين كأنهما شهر ، بحيث يمر الوقت هناك ببطء،
و قمت بتوديعها وهي تصر على بقائي لأيام. ثم
واصلتُ رحلة العودة جريا بين الحقول الخضراء،
وأمضيت وقتا طويلا بين المراعي إلى أن وصلتُ إلى
عالم الازدحام، تاركًا ورائي ذكريات تلك الرحلة التي
كانت نهاية الخوف من الأشياء الفانية في حياتي.
لحظية كتبتها تحت سفح جبل
اليوم الاحد 5 ماي 2024