مختار النوح
أنا مختار النوح - وروائى وقصاص وشاعر وأديب وصحفى - سأروى لكم قصتى
ارتحلت إلى القاهرة قادما" من الريف لألتحق بكلية الأداب جامعة القاهرة -ممنيا" نفسى بحياة مختلفة مزدهرة فهى القاهرة التى يتغنى بها الناس ويسمونها مصر - حياتى فى الريف كانت قاسية فلم نكن نمتلك سوى قطعة أرض زراعية صغيرة يكاد ناتجها يكفينا الخبز الحاف بصعوبة بالغة ولى من الأخوات ستة أفراد بخلاف والدى ووالدتى لذلك كان والدى يعمل فى حقول الناس بالأجرة ليوفى إحتياجاتنا وكنت أساعده فى هذه الأعمال الشاقة بجوار دراستى وأبى يصر على أن أكمل تعليمى
فلما أنهيت الثانوية العامة قدمت أوراقى لكلية الأداب رغم أن والدى كان يريد لى كلية الحقوق فالبشوات السابقين فى القرية كانوا مستشارين وقضاة وأبى كان يتمنى أن يكون نجله قاضيا" يفتخر به فى القرية لكن ميولى كانت نحو الأدب خاصة أدب القصة والرواية وكنت أقول فى نفسى إننى أستطيع أن أكتب القصة والرواية أفضل بكثير من نجيب محفوظ
- فالكاتب الكبير عندما كان يكتب عن الحوارى والأزقة كان يكتبها مما سمع عنها لكنه فى الحقيقة لم يكن يعيش فيها - أما أنا فعشت فى دروبها وكان سريرى التراب وسقفى السماء عشت الواقع بأبشع صوره..
باع والدى البقرة التى كانوا يحلبون منها اللبن ويصنعون منه الجبن ليساعدهم على الطعام بجوار الخبز الناشف والملح لأشترى بدلة جديدة وقميص وحذاء وبعض المصاريف للإقامة فى قاهرة المعز وحتى أكون مثل زملائى أو أفضل منهم على الأقل فى الشكل - فقد كنت ممشوق القوام مفتول العضلات ليس من لعب الرياضة فى النوادى ولكن من العمل فى الحقول والضرب بالفأس تحت الشمس الحارقة التى منحتنى السمرة بالإضافة لعيونى السوداء اللامعة
عندما وصل القطار لمحطة القاهرة نزلت أحمل فى يدى كيس يحتوى بدلة أنيقة وقميص وحزاء لكنى كنت أرتدى جلباب مرقع ومداس للقدم شبه متهتك - فى البداية لابد أن أبحث عن حجرة فى حى شعبى لأقيم فيها على قدر ما معى من نقود وطال البحث أذهب من حارة لزقاق حتى وجدتها أخيرة حجرة تكاد تكون مظلمة لا يوجد بها سوى شباك صغير يطل على منور للبيت الذى تضرب فى مدخله مياه الصرف الصحى وذات حوائط رطبة حجرة خانقة لكن لا بأس
وأبتعت حصيرة فرشتها على الأرض -وفى أحد الحوائط دققت مسمار وأسفله وضعت جريدة قديمة لكى أعلق عليها البدلة الجديدة التى تمثل حياتى ووضعى الجديد -جلست على الحصيرة وأسندت ظهرى للحائط الرطب وقلت محدثا" نفسى معقول أن تكون هذه هى القاهرة
التى يتمنى الناس زيارتها ويتحدثون عنها بكل الإنبهار
إن الحجرة فى بيتنا الفقير فى الريف أسعد حالا"بكثير من هذه الغرفة التى لم يكن لها أيضا" دورة مياه - لذلك عندما أريد أن أقضى حاجتى أذهب إلى المسجد القريب من البيت - وأجمل ما فى هذا المسجد أن دورات المياه فيه كان لها باب مخصوص لا يغلق ليل أو نهار فحمدت الله كثيرا" على هذه النعمة الكبيرة --إرتديت البدلة الأنيقة وذهبت إلى الكلية فى جامعة القاهرة
ومررت بنهر النيل والشوارع الواسعة والمبانى الشاهقة -وكنت كلما مررت بعمارة عالية أقف لأعد عدد الأدوار فيها
- وكما يقولون قروى ساذج أبهرته أضواء المدينة
داخل الكلية إكتشفت أن بدلتى متواضعة جدا" بالمقارنة بالبدل التى يرتديها زملائى لكن ما كان يميزها أنها كانت موضوعة على جسم مثل المانيكان - بدأت أتعرف على الزملاء والزميلات ولم يكن يشغلنى شيئ عن المذاكرة وتحصيل الدروس لذلك كنت دائما الأول على دفعتى - وقد تعرفت على زميلة لى غاية فى الروعة والجمال وتوثقت علاقاتنا اسمها سعاد
وفى أحد الأيام دعتنى للذهاب إلى بيتها والتعرف على أبيها وقالت إن أبى سمع عليك كثيرا" منى ويريد أن يراك ..
حضرت سيارة فارهة يقودها سائق يرتدى ملابس أنيقة – سارت السيارة مسرعة وسط بعض الأحياء الراقية وتوقفت أمام فيلا مسورة لها حديقة والباب تحيط به الورود والأزهار - نزلت من السيارة قادتنى سعاد داخل الفيلا وأنا منبهر بما أراه .. نعم هذه هى القاهرة التى فى خيال الناس وليست كالخرابة التى أقيم فيهاقابلنا رجل خمسينى العمر يرتدى الملابس الفاخرة وتبدو على وجهه علامات العز والهيبة وقابلنى بترحاب كبير وكأنه يعرفنى منذ مدة طويلة
وعرفتنى سعاد به - بابا هذا هو مختار الذى حدثتك عنه كثيرا" وهو الأول على الدفعة طوال الثلاثة سنوات الماضية -- مختار هذا هو بابا الدكتور أحمد غالب أستاذ الأثار فى كلية الأثار
-تبادلنا أطراف الحديث واكتشفت أن دكتور الأثار على قدر هائل من الثقافة خاصة الثقافة الأدبية وأنه سليل عائلات من البشوات فى تاريخ مصر وهذه الفيلا هى الباقية الوحيدة من جملة ما تم تأميمه من مصانع وشركات وأراضى شاسعة والدكتور شديد التهذيب فلم يسألنى عن أصلى ولا حتى عن بلدتى فقت شعرت بأنه يوعظنى بأن إبنته الوحيدة تربت على العز وكأنها أميرة لكنها تهوى الأحياء الشعبية من باب الفضول
-قادنى دكتور الأثار وسعاد إلى حجرة الطعام - وقال الدكتور نأكل سويا" حتى يكون بيننا عيش وملح - فلما دخلت الحجرة وجدت بها ترابيزة سفرة كبيرة عليها أشهى الطعام --جلسنا حول المائدة وأمسكت بالشوكة والسكين بحذر شديد فلما وجدنى الدكتور لا أستطيع إستخدام الشوكة والسكين إذا به يشمر أكمامه ويقول : أنا أحب أن أتناول الطعام بيدى وبدأ يأكل بيده حتى يرفع عنى الحرج
فى أجازة نصف العام طلبت سعاد منى أنها تريد أن تقضى عدة أيام فى الريف المصرى الجميل الساحر -ما أجمل الخضرة فى الريف وما أجمل طعام أهل الريف يأكلون الفطير المشلتت والقشطة والحمام -فقد كانت تستمع كثيرا" إلى غناء محمد عبدالوهاب - محلاها عيشة الفلاح متهنى وباله مرتاح -- أرادت سعاد أن ترى الفلاح المتهنى صاحب البال المرتاح - نعم ما أروع ريفنا المصرى --- وتستنشق الهواء العليل وسط الخضرة الساحرة
قلت لها : الريف ليس ما تتوقعين ولا ما تتخيلين - نعم يوجد فى الريف الهواء العليل لكن هناك أيضا" الباعوض ونسميه ناموس - البعوضة كالنحلة إذا ما لدغت أصابت الجلد بالتورم - ودائما" يهجم على الغريب -باعوض ريفنا كالعقارب بالإضافة إلى حشرة أخرى إسمها البراغيث - فإذا نجى الشخص من الباعوض فلن يستطيع النجاة من البراغيث التى تعيش فى التراب وبيوت الريف أرضيتها تراب
----كما أن الطعام فى الريف ليس هو الفطير والقشطة والبط والحمام - إنهم يأكلون شيئ إسمه السريس - شيئ أخضر ينبت وسط البرسيم يأكله الإنسان والحيوان سواء بسواء --- ولا توجد كهرباء - فى الليل يشعلون اللمبة الجاز التى يفوح منها الدخان الخانق - بالتالى لا توجد مراوح – وظللت أعدد فى مساوئ الريف لعلها تراجع نفسها
كل ما قلته لها لم يفلح وأصرت سعاد على زيارة الريف - فأرسلت إلى والدى تلغراف بأننى قادم ومعى ضيفة من القاهرة - ليحضر أخاه الحمار لينتظرهم عند محطة القطار التى تبعد عن قريتهم بأربعة كيلو مترات فى أرض رملية يصعب المشى فيها --وصلنا المحطة وأركبنا سعاد على الحمار وكانت غاية فى السعادة - وعندما دخلنا القرية - كان النساء والبنات الفلاحات يتهامسن بصوت مسموع - مختار إبن عيوشة أحضر معه عروسة من مصروصلنا البيت وعرفت سعاد بأبى وأمى وأخوتى وأخواتى
-وفى العشاء أحضروا الطبلية وعليها الفطير المشلتت المصنوع من القشدة وأطباق القشدة والحمام المحمر والبط المحمر والملوخية - وأكلت سعاد حتى ملأت بطنها بالطعام السمين وملوخية بلدنا
---ثم حدث ما لم يكن فى الحسبان ولم يأتى على خاطرى - حدثت الدربكة فى بطن سعاد وتريد أن تذهب للحمام لدورة المياه - لم يكن فى البيت حمام أو دورة مياه - ليس فى بيتهم وحده ولكن فى القرية جميعها - دورات المياه والحمامات فى المساجد فقط --قلت لها سأذهب بك إلى المسجد - قال لا أريد دورة المياه الأن فقلت لها لا يوجد سوى الزريبة الخاصة بالمواشى - وهى التى نقضى فيها حاجتنا وذهبت بها أختى إلى الزريبة لتقضى حاجتها -كان الموقف شديد الأحراج ولا أدرى لماذا لم يخطر على بالى سابقا"
فى الصباح الباكر وبمجرد أن أشرقت الشمس ولاح النهار طلبت سعاد السفر للقاهرة - فقمت لأوصلها لمحطة القطار فرفضت بإصرار وقالت لى إجلس مع أهلك فقد وحشتهم وسيوصلنى أخيك بالحمار فأيقنت أنها أصبحت لا تريد أن ترانى فيبدوا أن قضاء الحاجة فى الزريبة وسط المواشى والأرض المملوءة بالروث قد أثر كثيرا" فى نفسية بنت الذوات
لم أعد أرى سعاد داخل الكلية ولم تحضر إلا على الإمتحانات فقد كان والدها يحضر لها الدكاترة الأساتذة إلى الفيلا -وإنقطعت صلتى بها تماما وعرفت أنها تزوجت من شاب يعمل فى السلك الدبلوماسى ووالده سفيرا" لمصر فى إحدى دول أوربا
---رفضت العمل فى الجامعة أو فى أى مصلحة حكومية وفضلت العمل الحر فى الصحافة - وبدأت خطتى الأولى للتفوق فى مجال الرواية - فقد كتبت رواية كاملة من واقع الشوارع والحوارى المصرية - رواية تناطح ما يكتبه الروائين والأدباء من أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأمين يوسف غراب - وذهبت إلى مكتبة شهيرة للطبع والنشر لكى تتكفل بالطبع والدعاية للرواية وتنفق عليها كما هو متبع مع الأدباء
--فقال لى صاحب دار النشر - أنت كاتب مغمور لا يعرفك أحد وليس لك إسم ولا أستطيع أن أجازف بطباعة ونشر روايتك ولكنك من الممكن أن تنفق عليها من مالك الخاص -ذهبت إلى القرية وأقنعت والدى بأن يبيع قطعة الأرض الزراعية لأتمكن من طباعة ونشر روايتى وسأعوضهم عن الأرض بأراضى أكبر عندما أشتهر ويزيع صيتى
--وبالفعل تم نشر الرواية إلا أنها ظلت فى دور النشر والمكتبات عدة شهور ولم تباع منها نسخة واحدة - وطلب منى أصحاب دور النشر بأن أسحب روايتى وكفاهم ما تحملوه من التخزين دون فائدة وإضطررت أن أسحبها من الأسواق ولم يكن عندى مكان لتخزينها فأهديتها إلى دور الكتب والثقافة العامة --لم أعد أطيق القاهرة وشوارعها وزحامها سأذهب إلى عواصم المحافظات وسأعمل فى الجريدة مراسل بالقطعة وسأتعيش بما ترسله لى الجريدة
-وتدور الأيام ويصبح الأديب والشاعر مختار النوح من المشردين
تمت
.