قراءة في رواية الوَبَاء
محمَد عبد الرحمن يونس
مدخل:
رواية الوباء هي الرواية الرابعة* للروائي السورية هاني الراهب (1) ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن ما يسمى بالرواية التاريخية من جهة، أو رواية "الأطروحة" وفق سياق أيديولوجي من جهة ثانية. إنها محاولة لاستجلاء تاريخ سورية الحديث، إذ يقدم الراوي شخوصه ضمن إطار تاريخي واجتماعي محدد بمرحلة زمنية متسلسلة ابتداء من عام 1916م، تاريخ وصول الحرب العالمية الأولى إلى سورية (2) حتى تاريخ انتهاء كتابة الرواية.
تتعرض الرواية إلى مجموعة من الأحداث المكثفة التي تمر بها أسرة الشيخ عبد الجواد الخياط، وذلك من خلال أربعة أقسام: الشمس تغرب –الخبز والحرية –الميراث –سفر برلك".
ومن الملاحظ أن التاريخ –كتأريخ لفترة زمنية محددة بحوادثها –ليس هدف الكاتب، إنما يستعين به كقناع لفهم الحياة من خلال دور الشخوص في تشكيل الماضي والحاضر، ومن ثم يعرج على الهزائم التي تصيب الذات الإنسانية، هزائم على أكثر من مستوى، الماضي كابوس يلاحق الشخصيات ويسحقها، ويمتد إلى جسد الحاضر ويعيقه من التقدم نحو المستقبل، والحاضر بمعطياته غير قادر على تحرير الذات من الإشكالات المرة التي تعاني منها، كما يتعرض الكاتب للحاضر بعلاقاته وقيمه وأبعاده الطبقية.
والانتهاكات التي تمارس ضد بني الجنس الإنساني، والرشاوى والفساد والثراء غير المشروع، والتمايز الاجتماعي، والصراع الطبقي داخل المجتمع، ويركز على علاقة السلطة بالمواطن وممارستها، وعلى التحولات الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي حدثت بعد استقلال سوريا. وما رافقها من تغيرات في حياة المواطن العادي، وستتم هذه القراءة السريعة وفق المحورين الآتيين -:
1-الواقع والأطروحة والسلطة.
2-الشخصيات والسلطة.
1-الواقع والأطروحة والسلطة:
الحديث عن الواقعية في العمل الروائي عملية جد شائكة ومعقدة، إذ يقتضي تصوراً معيناً لمجموعة سمات تسم العمل الأدبي، ثم الانطلاق من هذه السمات لمقاربة هذا العمل معها. إلا أن هذه الانطلاق عملية تصنيفية لا تخلو من المخاطرة، لأنها قد تؤدي إلى تنظير للواقعية أحجم الكثيرون عن الإقدام عليه. هل الواقعية هي محاكاة الواقع بالمفهوم الأرسطي؟ وهل هي وصف للشرائع الاجتماعية في معاناتها اليومية؟ هل نأخذ الواقع كما هو بصوره المتداخلة المشوشة، اللامنظمة؟ أم نجري تصفية لهذا الواقع قبل التعامل معه؟ يرى توماشيفسكي "أن الكتابة الواقعية لها قواعدها. ومعاييرها وأصولها، فالواقع الذي تعتمد عليه الكتابة الواقعية ليس الواقع العشوائي الخام، وإنما هو الواقع المختار الذي تختلف معايير تقييمه عن معايير أرسطو" (3).
إذا اعتبرنا أن العمل الروائي هو موقف من الحياة والكون، أو رؤية لهذا العالم المصطخب، فإن هذه الرؤية لا تكتمل إلا بتعاملها مع الواقع، ولا يمكن لها أن تلغي أو تتجاهل هذا الواقع، والرواية الناجحة هي القادرة على التعامل مع هذا الواقع بمعطياته المختلفة، وبطبيعة الحال تتباين درجات النجاح وفقاً لموضوع الرواية بأحداثها وأسلوبها وطريقة الكاتب في تعامله مع هذه الأحداث ومعالجتها. والتعامل مع الواقع هو تعامل –بالدرجة الأولى –مع الإنسان، والرواية القادرة على استنفار الشرط الإنساني في أعماق القراء تكتسب مشروعيتها بطليعية حقيقية.
يقول جاك ميتشيل: "إن الرواية كشكل من الانعكاس الجمالي للإنسان في المجتمع، بعلاقتها الحميمة الصميمة، "المبنية على الملاحظة"، الشمولية و (وفقاً لشروط ميلادها على الأقل) الإيجابية بين الذات (الكاتب والقارئ) والموضوع (الإنسان الموجود في المجتمع القائم)، تتطلب... درجة عالية جداً من تحقيق "الشرعية الإنسانية" من قبل الذات الجمالية وأهمية ذلك القطاع من الواقع الإنساني "بالنسبة" إلى الإنسان المرئي كموضوع جمالي" (4).
وإذا انطلقنا من أن الواقعية هي نقل الواقع كما هو من وجهة نظر محايدة موضوعية، فإن قسماً من رواية "الوباء" يدخل ضمن هذا الاعتبار، وخاصة تعرض الكاتب لتلك العلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد الطبقة البورجوازية من جهة، وفي علاقة السلطة بالمواطن من جهة ثانية، وفي العلاقات الريفية من جهة ثالثة، فالواقعية هي إدراك الواقع بأبعاده، لكن هذا الإدراك يبقى نسبياً إذ لا يمكن ادراك حياة الشخصيات التي تعايش الواقع إدراكاً كاملاً، فكل فن روائي ينطلق من الواقع يحاول أن يخلق واقعاً آخر فنياً هو الواقع الروائي.
ما هي مؤشرات الواقعية في رواية الوباء؟
يرى د. جمال شحيد أن النص الواقعي يسعى إلى وصف الحياة الاجتماعية في تفاصيلها اليومية (5).
فإذا كانت الحياة الاجتماعية في قرية "الشير" وتحديداً في فترة زمنية كانت الإقطاعية فيها ضاربة أطنابها عام 1943 –حياة بسيطة لم تعتد الحضارة بعد، ولم تستوعب التطور التكنولوجي، أو بتعبير لم تسمع بالفرز الجديد لهذه الحضارة، فإن الراوي يستجلي دقائق هذه الحياة ويكشف عن الدهشة التي تحس بها الشخصيات تجاه ما هو جديد، وهاهي "زين المها" تقف مرعوبة أمام أول "حاك" تشاهده في حياتها إذ أحضره "إسماعيل السنديان" من بيروت:
"لم تكن قد عرفت بما اشتراه ابن أخيها من بيروت. وجاءت تستطلع. قبَّلت يد أخيها المضطرب غضباً، وقبلت وجه ابنه "ما هذا يا حبيبي؟" فأسرع إلى الجهاز.
استل الرغيف من ورقته، وضعه على الدائرة المخملية، وأدار الذراع اللامعة وبقدرة قادر تحركت ذراع أخرى حول محورها وحطت على الرغيف" (6) يعمد الراوي إلى تضخيم الحدث حتى يبدو غرائبياً. طبيعي أن تحس بالدهشة للوهلة الأولى، لكن أن تصاب بذعر مطلق فذاك أمر آخر:
"وجدت نفسها تنتصب وقد اجتاحها ذعر مطلق" (7) هذا الذعر يلاحقها حاضراً ومستقبلاً، يتوسد كفنها في رحلتها إلى مثواها الأخير:
"لم تنس زين المها ذلك الحادث حتى بعد وفاتها (8)" يحاول تعديل نظريته المحايدة وفق فنيات تقتضيها طبيعة التعامل مع الكلام الروائي، فيعمد إلى إيهامنا بالحقيقة، ويذكر أن الأسطوانة صدحت بأغنية "حول يا غنام حول، بات الليلة هين" (9).
فمن الملاحظ أن الأغنية لم تكن موجودة في العام الذي جرى فيه الحدث والذي يحدده الراوي بالعام 1943م.
من الطبيعي أن تكون ثمة زوايا منفرجة بين الجيل القديم، والجيل الجديد تفرضها طبيعة الرؤيا لكل من الجيلين. فيعرض الراوي لهذا التباين الحاد من خلال تجسيده للصراع بين الماضي والحاضر، الماضي هو الأب، والحاضر هو الابن، فثنائية الصراع بطرفيها تتجسد في وقوف الأب "إبراهيم السنديان" رافضاً لكل معطيات الحاضر، إنه يريد للماضي السلفي الذي لم يعرف الاختراعات أن يمتد إلى جسد الحاضر، يعلن سخطه على ابنه "إسماعيل" واصفاً إياه بالمروق والخروج عن الدين..
"هذا الولد المارق، الذي جاء من بلاد الفساد بآلة رصدت عليها أصوات الجن، وربما الجن أنفسهم ووضعها في قلب الدنيا، وطق عرق حيائه فلم يرع حرمة زوجة ماتت منذ شهر فقط" (10).
إن تضخيم الأحداث سمة من سمات "الوباء"، فالحدث يبدو مدهشاً غرائبياً، فالمرأة تتحفز للوثوب حين سماعها صوت "الحاكي":
"... وعلى عتبة الباب البعيدة وثبتي حصان، وقفت أمام إسماعيل متهيئة للفرار" (11) في ظل الواقعية السحرية طبيعي أن تغرق قرية بكاملها في الدهشة والهلع لسماعها صوت "الحاكي".
حتى أن الشيخ "بهاء" مسه هلع مجنون، وارتعدت فرائضه لدى سماعه الصوت:
"التفت حوله وجحظت عيناه، بسمل. قرأ الفاتحة ثم أية الكرسي. واندفع من الباب راكضاً كزوبعة من غبار (12) يشكل الكاتب الحدث بشكل غرائبي مثير، فتبدو قرية "الشير" كأنها قرية "ماكوندو" في عزلة ماركيز. يمتزج الواقع بالسحر فيها.
أية قرية سحرية غرائبية هذه "الشير". إذ يتحول سكانها إلى ذئاب حقيقية، لا تتسع قلوبهم لبذرة خير واحدة. فكل القرية تطارد أولاد مريم خضير بعد وفاتها، وتشرد والدهم حسن الغفري:
"لم تكن لهم مكان ثابت للنوم. غالباً في المزارات. إذا لم يطردهم منها زوارها.
أو تحت الجوزة الكبيرة، إذا لم يطردهم أصحابها. كان الدرك يروعونهم. والوقاف والليل يلاحقهم (13) يقطع الراوي هذا الاسترسال في هذه الواقعية السحرية بعودة الوعي إلى بعض سكان القرية، على يد الشيخ عبد الجواد:
"تعيشوا على الصدقات السرية يعطيها لهم خلسة أناس أبرياء من وخم مريم وخائفون على شرفهم من التقولات. وعندما انضم الشيخ إلى هؤلاء، تجرأ آخرون وقدموا لهم طعاماً" (14) يتعرض هاني الراهب في واقعيته المدهشة إلى أقسى درجات انسحاق الإنسان تحت مطارق الزمن المفجع، زمن الانفصام الحاد، فيبدو عالمه مزيجاً من عوالم غرائبية من لا إنسانية الإنسان وقسوته الوحشية في مجتمع ريفي لم يتلوث بعد بغرز الحضارة.
لنقرأ المقطع التالي لنرى حجم المعاناة الحقيقة التي يتعرض لها أطفال حسن الغفري:
"لاحت من رمضان التفاتة فرأى التنور. جرهما إلى خيمته اتقاء للريح. ووقفوا يفركون أيديهم طلباً للدفء. مد بديع راحتيه داخل فوهة التنور، وصاح فرحاً: "مدوا، مدوا أيديكم. التنور دافئ." وفعلوا. ثم مد الإخوان جذعيهما، وصاحا بحبور حقيقي. ثم رفعا زهرة إلى الفوهة وأدفأها. وهتف رمضان: "مدي رجليك لأشوف." فمدت. "ضعيهما على الرماد." فوضعت. وأنزلاها. "ابقى هنا للصبح. أنا وبديع نجيء إليك. يا الله يا بديع. كل واحد إلى تنور، تريدين شيئاً؟" (15).
إن للواقعية "تيار فني وضع لنفسه هدفاً نسخ الواقع بأكثر ما يمكن من الأمانة والطموح إلى أقصى ما يمكن من الاحتمالية. إننا نعتبر تلك الأعمال التي تظهر لنا محتملة، أو تعكس الواقع عن قرب واقعية" (16) على حد تعبير د. جاكبسون ولعل أحد وجوه هذه الأمانة هو التركيز على معاناة الشرائح الاجتماعية المسحوقة وفقرها، وهمومها اليومية في مطاردة الخبز، وحديثها اليومي، والتواصل الإنساني فيما بينها، فالبؤس والحرمان سمة رافقت الإنسان الريفي في رحلته الطويلة مع الإقطاع والفاقة.
"... مشى على السطح حتى الشراف.. أمام البيت الصغير الذي ينام فيه سبعة آدميين. ثم عاد" (17).
إن النص الواقعي يعير أسماء العلم والأشياء العادية اهتماماً كبيراً، فنجد الكاتب الواقعي يلجأ إلى إعطاء أسماء شعبية وفلاحية لشخوص الطبقات الشعبية وذلك لتحديد بعدها الاجتماعي (18)، ورواية "الوباء" حافلة بعينات من هذه الأسماء الشعبية، فنجد قائمة الأعلام الآتية: د. درويش العون –خضرة –عنيترة –بديع –شحادة –تمر تاج –مزنة –صقور –زين المها –رضا –طهماز –سرحان –زهرة –كحلة.... الخ وتأخذ بعض الأسماء بالإضافة إلى شعبيتها بعداً تاريخياً أو دينياً مثل: خضير –إسماعيل –عثمان –محمد علي –عمر الماوي –عبد الهادي –عبد الرحمن –بدر –عبسي –شداد –خولة –مريم –علي بن سلمان –مأمون –كلثوم –يونس –كنعان –رجب –زينب –داوود –صالح –أيوب، ويبرر الكاتب استخدامه لهذه الأسماء قائلاً "أحمد سليم أصر على تسميتها خولة، تيمناً بتلك المرأة العربية الباسلة التي أغارت على جيش وخلصت أخاها من الأسر" (19)
أما الأسماء التي تنضوي تحت لواء الطبقة البورجوازية، فإن الكاتب يوليها عناية خاصة تماشياً مع خطه الواقعي، فتأخذ زوجة عبسي اسم فدوى، وبنتاه: سوسن ورحاب.
إن الفضاء المكاني الذي تجري فيه أحداث هذه الرواية هو ثنائية الريف والمدينة.
وتحديداً قرية "الشر" كفضاء أول، ومدينة اللاذقية ودمشق كفضاء ثان.
ومن خلال فضاء الريف وظف الكاتب العلائق الاجتماعية الريفية في الرواية توظيفاً أضفى على حركة السرد جاذبية خاصة، فالريف ونمط معيشة الفلاحين ومآسيهم الخفية السرية، يقدم عموماً للرواية مناسبة لتقديم لوحات أخاذة، وسرد عذب مفجع على حد تعبير ر- م- ألبيرس (20) لنأخذ اللوحة الآتية التي تمثل نمط الأعراس في الريف:
"كان عرساً تحدثت به الركبان، سبعة أيام بلياليها وساحة القرية تغص بالجموع الوافدة.
كان النهار مأدبة، والليل طقوساً. من يعلم كم ذبيحة شويت على النار، أو سلقت في الدسوت الهائلة؟ من يعلم كم جائعاً مزمناً شبع؟ وكم طفلاً كف مؤقتاً عن سرقة التين اليابس من بيت أبيه؟ في المساء كانت تلال الحطب التي حملتها فتيات القرية على ظهورهن ووضعها في الزاوية الجنوبية الغربية تذوب بالتدريج في النيران المضرمة. بلمحة عين يندلع اللهيب الضاري كأفاع برتقالية نصف شفافة، ويندفع في السماء كبرج بابلي ممسوس. وعندها يتقدم شاكر حزيق ويدفئ طبله الضخم، ثم يضرب عليه ضربة يتردد صداها في جنبات الوادي المجاورة. ويعقبه فليفل، عازف المزمار، فيرد على الطبل بزخة قصيرة" (21).
فالمقطع السابق يكشف عن مآسي مفجعة بتداخل اللوحات، البؤس حتى الثمالة بجانب التخمة.
***
ثمة أسئلة تطرح نفسها: هل تدين الرواية النظام الاجتماعي في الماضي والحاضر؟
هل هي تعبير عن كلام أيديولوجي تغلفه تقنية السرد؟ وهل يمكن القول أن رواية الوباء هي "رواية أطروحة"؟
إذا كان هاني الراهب يرى الواقع وفق نظرة محايدة في مواضع معينة –كما قلنا سابقاً –فإنه يتخلى عن هذه النظرة ليمزجه بالغرابة والسحر أحياناً، بالإضافة إلى ذلك فإنه في مواضع أخرى ينحو منحى أيديولوجي ليقترب من الرواية الأطروحة يبدو أنه من الصعب أن نجد في العالم العربي رواية تخرج عن مفهوم "الأطروحة"، لأن لغة الكلام السياسي والديني هي المهيمنة على الحياة العربية برمتها، وبالتالي تكون "الأطروحة" للتخفيف من حدة هذا الكلام، ثم أن السيطرة المفروضة على العالم الثالث وطبيعة الصراع القائم في هذا العالم على "جبهتين متداخلتين وغير منفصلتين هما الصراع ضد الغرب الإمبريالي –تحرر وطني –والصراع ضد الواقع –التراث المختلف لهذه المجتمعات" (22).
فإذا كانت الرواية كلاماً أيديولوجياً، فإنها تندرج فيما يمكن أن نسميه بالرواية الأطروحة.
ما هي ملامح الكلام الأيديولوجي في الرواية؟
من المعروف أنه في المجتمع القروي وفي ظل الإقطاعية تبرز طبقات عدة يحددها الكاتب على الشكل الآتي: طبقة الملاك الكبار يمثلها عبد الرحمن بيك وعبد الهادي، طبقة الملاك الصغار يمثلها إسماعيل السنديان، وطبقة الأجراء وتمثلها الشريحة المسحوقة من الفلاحين الذين يعملون "كمرابعين" على حد تعبير الكاتب.
وهذه الطبقية تغلف حياة المدينة أيضاً، حتى تبدو المدينة صورة أخرى للريف في احتضانها لهذا التفاوت والتمايز الاجتماعي.
فهناك طبقة البورجوازيين الكبار ممثلة بعبسي، وطبقة البورجوازيين الصغار ممثلة "بخولة"، وطبقة العمال ممثلة بشداد، وطبقة البروليتاريا المسحوقة ممثلة بإسماعيل السنديان". في هذا المجتمع الطبقي تصبح الحياة كابوساً حاداً، ويسحق الإنسان ويكسر شموخه الإنساني "إنه عالم الطبقات ومجتمع الاستلاب الذي لا يفقد فيه الإنسان أسباب حياته واستمرارها فقط بل ويفقد تواصله مع الآخرين ليعيش عزلة تصل به إلى اليأس الكامل" (23) في ظل المجتمع الطبقي تولد التناقضات الحادة، ويعي شداد أن الفقر والجوع نتيجة مباشرة لهذا التمايز الطبقي، ولا يرى حلاً مناسباً إلا بقيام الاشتراكية الحقيقية التي تبشر بالثورة، وتقضي على طبقة المتطفلين المستهلكين، أمثال عبسي والدكتور محمد علي ورجب العز وعمر الماوي، ولذا فهو يختار طريق التمرد كحل يراه ضرورياً، وتشجعه زهرة على ذلك. يدين الراوي حالة الثبات التي يمر بها المجتمع وفق رؤية أيديولوجية، فرغم الثورة، لا تزال الأوضاع كما هي، لا يزال الإقطاع والاستعمار، لا تزال الطبقات. يقول على لسان شداد:
"أين نحن الآن؟ طبقة تمضي وطبقة تجيء ولا جديد تحت الشمس هذا الذي يبلبل عقلي. يطير سكينتي. ترى الناس يضحكون على أنفسهم؟ لأنه لم يتغير شيء. بقي الغني وبقي الفقير، وصارت الحالة أسوأ. الكذب، الاستغلال، الاضطهاد، البؤس، هي التي تنتصر. والصدق، والعدل، والحرية، والفرح، هي التي تنهزم. حالة مسخ، مشوهة، ذيلية، العالم كله يمشي على الطريق الغلط بالقوة، ومنذ الأزل" (24) وتظهر الرؤية الأيديولوجية للراوي ممثلة في رأي زهرة الصلب، الرأي الاشتراكي الذي يجسد الصراع بحدة مع الطبقات البورجوازية في نموها السريع على حساب الكادحين أمثال زوجها، وإسماعيل السنديان –وانسلاخها عن أصولها الطبقية، واحتقارها لهذه الأصول.
تقول زهرة لأخت زوجها خولة:
"... إذا كان الأمر هكذا، نحن فعلاً ضد عبسي. هؤلاء الأغوات. الجدد. طلعوا ضد الأغوات في الضيعة، وصاروا أغوات في المدينة، مزارع، بساتين، كروم، عمارات، سيارات، أموال، سلطة. أنت تدافعين عن هؤلاء؟ أبوك كان في صيف الأغوات أو في صف الفلاحين؟" (25).
إن احتدام الصراع، وانهيار جدار الألفة، بين الأخوين شداد وعبسي، لهو تعبير عن الانكسارات الحادة والتباين الواضح في الرؤى، وهذا الانطلاق في الموقف الأيديولوجي، إنما هو تعبير عن الطلاق بين الطبقة الكادحة والطبقة البورجوازية، ولأن شداد كلمة حق في وجه سلطان جائر، نجد عبسي يضطهده، ويعتبره معادياً للثورة:
"شداد يقف موقف الرفض من كل ما أنجزته الثورة. بل موقف العداء التام.
وبالنتيجة هو يقف ضد عبسي ويسعى إلى تحطيمه" (26).
إذا كانت الواقعية ترفض إصدار قيمة أخلاقية أو رؤية أيديولوجية، فإن هاني الراهب خرق هذا الرفض ودان قيماً أخلاقية سائدة بين الطبقات في الريف والمدينة، ومن خلال هذه الدينونة طرح رؤى ذات طابع أيديولوجي طرحاً يصل إلى حد المباشرة أحياناً، جاء هذه الطرح على لسان عبسي في بداياته الأولى –قبل أن ينسلخ عن أصوله الطبقية.
"سنقضي على الإقطاع والصهيونية والاستعمار وسنوحد البلاد العربية في دولة واحدة" (27).
يبدو أن الواقعية العربية –إن صح هذا المصطلح –في العمل الروائي لها خصوصيتها، إنها تسير مواكبة للكلام الأيديولوجي، وتدخل ضمن سياقه. لقد عبر حيان بواقعية ذات رؤيا ناضجة عن مجتمع البورجوازية، بعلاقته الاستهلاكية، التي لا تمت إلى الإنتاج بصلة، وبأحاديثه المبتذلة الفارغة:
"أنا راقبت حياتكم جيداً. سمعت أحاديثكم. وأعرف علاقاتكم. أكثر ما تستمتعون به، الأكل. أكثر ما تهتمون به المال والامتلاك والفضائح. اشتهيت أن أسمعكم تتحدثون في موضوع فكري، في أسئلة عن الإنسان والكون والمصير، أنتم عاميون إلى درجة الابتذال.
لا أفراحكم أفراح. ولا أحزانكم أحزان. مشاعركم وآراؤكم ليست حقيقية وجميع أسس حياتكم مبنية على معايير كان مجتمع حمورابي متقدماً عليها. لأن حمورابي كان عنده دستور. قوانين. أنتم لا تعرفون ما هو القانون. علاقاتكم الشخصية" (28).
في ظل المجتمع الطبقي ثمة بنى تتحكم في طبيعته: بنى اجتماعي واقتصادية ونفسية وذهنية، وينطلق الكاتب في هذه البنى وفق رؤيا تدخل ضمن سياق أيديولوجي.
يعرض هاني الراهب لبنية الذهنية العربية السلفية في نظريتها إلى مفهوم الشرف والمرأة، هذه الذهنية التي ترى أن أهم ميزة أساسية بالنسبة للمرأة هي شرفها وتحديداً –بكارتها –فلا يتوانى القائمون على حماية شرف المرأة أن يرتكبوا أبشع المجازر صوناً للعرض. لنقرأ الحوار الآتي
"بودك الحقيقة بالمقشر؟
-بالمقشر.
-خضرة حامل. تريد أن تقتلها بنفسك أو يقتلها أخوها؟
-أين خضرة؟
-تحت في البيت.
-ماذا قالت؟ (29)
ويستمر الحوار على هذا الإصرار لقتل خضرة:
-"وإذا يبست رأسها؟
قال الأب: اتكالنا على الله وعليك.
قال الأخ: وإلا قتلتها" (30)
انطلاقاً من هذه الذهنية العربية في نظريتها السلفية إلى المرأة والشرف، نجد أن الشيخ عبد الجواد، يتحول إلى كابوس مرعب يلاحق خولة –عند نضوجها –أينما يممت طرفها، وانطلاقاً من هذه القيم يمكننا أن نفهم موقف عبسي من ابنته سوسن وخوفه من أن ترتكب حماقة ولا سيما وأنها في أوج مراهقتها، فالماضي السلفي بكل ترسباته يحاصر الحاضر، ولا يختلف موقف أخي خضرة، والشيخ عبد الجواد قبل عشرين عاماً من موقف عبسي الحالي في تعامله مع سوسن فعندما يكتشف أن ابنته تدخن ينهار مصعوقاً: إذ ".... دونما إشارة أو وعي سابق، ارتفعت يده وهوت على وجهها. برم رأسها نحو الكتف. وهوت على الأرض. وشاهدتها وهي ترتطم، ثم تتوقف، فكأن ثقلاً هوى من نفسه، عابراً يده." (31)
وهاهو يحدد مفهوم الشرف لأخته خولة قائلاً:
"أكيد لولا أني حازم مع سوسن، لسببت لي مئة فضيحة. جيل في حياتي لم أسمع بشيء أكثر شذوذاً منه. تتشوه، تموت، لا أقامها الله، ماذا تساوي الثروة والمركز من دون الشرف؟" (32).
والغريب في الأمر أن عبسي يعتبر نفسه حامل لواء الثورة، ببعديها الاجتماعي والسياسي، طالما أنها قامت على كتفيه.
إن تفكير عبسي ومواقفه من المرأة والشرف إنما هو تفكير بعقلية برجوازية عربية تكشف مدى ضحالة وعيها فهذه البرجوازية المحلية تحمل عقلية القرن الرابع عشر في رؤيتها للعالم.
إن في موقف عبسي من خروج ابنته الشابة سوسن دعوة للمحافظة على القيم الدينية السائدة التي تلقاها من الشيخ عبد الجواد، فعبسي والشيخ عبد الجواد يلتقيان في هذا المنحى، وما موقف عبسي البورجوازي الحالي رغم الفارق الزمني بينه وبين والده، إلا دعوة إلى القيم الإقطاعية الطبقية وارتماء في أحضانها، وبالتالي عودة إلى السلطة التي حددت هذه القيم ووضعت أهم معالمها العريضة. وهذه العلاقة الحميمية بين المواقف ما هي إلا حنين إلى الماضي، أو بتعبير آخر حنين البورجوازية التجارية المناهضة إلى الإقطاعية الآفلة. من ناحية أخرى نلاحظ أن رفض عبسي لزواج أخيه شداد من زهرة بنت مريم خضير ما هو إلا موقف بورجوازي مناهض ومعاد لشريحة اجتماعية تقف أسفل السلم الاجتماعي، وذلك انطلاقاً من قيم هذه الطبقات التي تتبجح بالشرف، وبانتمائها إلى الأسر العريقة وذلك تكريساً لوضعها الطبقي، وحفاظاً عليه، وخوفاً من وعي الطبقات المسحوقة المتنامي.
يرى محمد كامل الخطيب (33) أن الحديث عن الأسرة المحترمة والتجارة، وغشاء البكارة إنما هو فضح لهوية البورجوازي وطبقته وأوهامه السياسية من هذا الجانب يمكننا فهم موقفه تجاه شداد حين زواجه.
يظهر في الرواية موقف أيديولوجي آخر، يتجلى في وصف الشيخ بهاء "الأبله"، هذا الورع التقي، السكير المتهالك على الخمرة في آن، والذي يخرج الشياطين من أجساد الناس باسم الدين إضافة إلى ذلك فإن موقف الكاتب من تقديمه لشخصية الشيخ عبد الجواد ورعاً تقياً في البداية، حكيماً متزناً في تصرفاته، وفي النهاية فإن الكاتب يغيب كل العناصر الإيجابية منه، فيبدو الشيخ عبد الجواد سريع الانفعال متشنجاً في تعامله مع أولاده. إذ توحي تصرفاته بشيء من الجنون والحمق في آخر مطافه:
"ومرة أمسك فأساً وانهال على باب البيت الكبير وحطمه، ومرة اجتث نصف أشجار الحاكورة، ثم نشر القطع حطباً وكومها حول الزريبة. مرة ظل يومين يمنع الحمام عن المبيت في أوكار أنشأها له من قبل في البيت الكبير...
بعدها حمل معولاً ومضى إلى التلة الشرقية، وبقي هناك حتى الصباح. لم يجرؤ سوى أم أحمد على اللحاق به فشاهدته يحفر قرب ضريحي أحمد وأيوب، وعادت" (34).
إن إبراز هذه التوترات بعناصرها السلبية الشيخ عبد الجواد، ما هو إلا موقف أيديولوجي من رجل الدين
ثمة أسئلة تطرح نفسها: لماذا بعض الناس مريم خضير، ولماذا أحبها آخرون؟
وهل يمكن اعتبار مريم خضير بذرة تمرد حقيقية ضد ما هو متعارف عليه من قوانين وقيم داخل مجتمع طبقي تهيمن عليه السلطة الدينية والاجتماعية والسياسية؟ أم أنها نوع جديد من نساء قادرات على تحطيم حصانة الشير، وبالتالي خرق السلطتين الدينية والاجتماعية؟
إنها مزيج من هذا وذاك، كرهها الناس لأنهم خافوها، هي ظاهرة جديدة والجديد منبوذ، فالفكر السلفي السائد في البشير يخشى دائماً الجديد ويخافه، يستهجنه ويعتبره عامل هدم للقيم والدين والعادات. إنها تتصرف بقناعة تامة وهي راضية تمام الرضى عن تصرفاتها، إذ تعتبر نفسها الوحيدة المالكة حريتها في القرية. ولذا خافها المجتمع، فهي في نهاية حياتها تدين مجتمع "الشير" القائم على الأحقاد:
"كل الناس تعرف أن الحب زادني جمالاً. ومحل هذا الجمال كان فيهم قبح. لهذا كرهوني، ونهشوني، لكن أنا عريتهم" (35) تدخل إدانتها للمجتمع ضمن رؤيا أيديولوجية يريد الكاتب طرحها في الرواية.
إن طبقة البورجوازية المحلية التي يشير إليها هاني الراهب طبقة استهلاكية لا تمت إلى الإنتاج بصلة، غير أنها ذيلية مرتبطة بالغرب الإمبريالي في استهلاك إنتاجه، ولذا نكثر الحديث عن السجاد والتجارة والويسكي، والفساتين والهدايا والمعاطف التي هي من منتجات هذا الغرب، هذه البورجوازية المتجسدة في عبسي ومحمد علي وعمر الماوي ورجب العز وآخرين "والتي تكونت ونمت تحت ظلال الإمبريالية ودون أن تستطيع أن تكون ضدها، وحتى دون أن تستطيع أن تكون ضد الإقطاع في مجتمعاتها أحياناً، تحولت إلى مجرد برجوازية وبسيطة، اقتصادياً وثقافياً لا تريد والأصح أنها لا تستطيع تحديث مجتمعاتها إلا إلى الحد الذي تجعل هذه المجتمعات تستهلك فتات منتجات الإمبريالية، دون القدرة على الإنتاج" (36).
وهذه بعض ملامح وأحاديث هذه البورجوازية الذيلية: "ارتدى محمد علي معطفه الألماني، ومضى من حانوت إلى حانوت، ينتقي ويدفع فواتير حتى امتلأ مقعد سيارته الخلفي" (37) إن حياة هذه البورجوازية غارقة في الملذات، والخمور، وجمع الأموال على حساب الفقراء:
"نهضت فدوى برشاقة ملحوظة ومضت إلى البار. واسترخى محمد علي في جلسته ووضع ساقاً على ساق. قال: "أنت متأكد من المليون؟ (38).
وتتبجح هذه البرجوازية بالتباهي في سلوكها اليومي، ونمط معيشتها، واقتنائها أفخر السلع وأغلاها:
".. وأن فاتن بنت أم فراس انخطبت، وحفلة الخطبة كلفت ثلاثين ألفاً، في الشاطئ الأزرق، وأنهم أهدوني قنينة بارفان بمئة وخمس وثلاثين ليرة" (39).
و: "سمعت. وسمعت أن خاتم الخطوبة سوليتير بخمسة وعشرين ألفاً؟" (40) و: "سمعت أبو نضال اشترى غرفة نوم جديدة بثلاثة وعشرين ألفاً؟" (41).
لا تكتفي هذه البورجوازية اللاوطنية بالاسترسال في هذا النمط الاستهلاكي في ممارساتها اليومية، بل تصل بها لا وطنيتها وتبعيتها إلى درجة التشكيك بالدور التاريخي والبطولي الذي لعبه الشرفاء في مقاومة الاستعمار الفرنسي، تقول أم الفضل زوجة المليونير رجب العز:
"... والشيخ صالح، الله يرحمه، خرب الأرض، والزرع والشجر. صار يسوق الفلاحين المساكين إلى موت بلا ثمن. هو كانت له قدرة على فرنسا؟" (42).
يبدو أنه في ظل المجتمع الاستهلاكي، كما يرى الكاتب تفقد كل القيم والعلاقات أصالتها، فتبدو استهلاكية آنية، يحدد عبسي مفهوم الصداقة قائلاً:
"في بلادنا، التعبير عن الحب والصداقة، يكون بتقديم طعام ينعش الجسد" (43).
أيريد الكاتب القول: إننا يجب أن نقفز بهذا المجتمع المتخلف الاستهلاكي إلى مجتمع إنتاجي أكثر تطوراً بعلاقات أكثر حميمة وصدقاً؟.
لعل حيان طالب الطب الثوري المتقد حيوية عبر عن ذلك، وكان واضحاً مع أمه عندما انتقد أحاديثها –هي وطبقتها –حول المال والشاليه والهدايا، يجسد ذلك في الحوار الآتي:
"وأنا مع من سأقعد؟"، "تقعد معنا! ألا يعجبك؟" "تعجبونني، لكن أحاديثكم لا تعجبني"، "مالها أحاديثنا؟" "أحاديث برجوازيين عيونهم فارغة" (44).
يريد حيان وشداد وزهرة وخالد صديق حياة تثوير المجتمع، وإعادة صياغة بنائه وفق فكر اشتراكي علمي، بينما يرى عبسي أن البناء مكتمل وصحيح وأن كل انتفاضة ضد ما يجري هي بالتالي انتفاضة هوجاء رجعية.
لا تتحكم "الأطروحة" في السرد فحسب، بل يبدو أنها تمتد إلى عناوين أقسام الرواية الأربعة: الشمس تغرب –الخبز والحرية –الميراث –سفر برلك، ألا تداخل هذه العناوين ضمن سياق أيديولوجي؟
وسنرى أن "الأطروحة" في رواية "الوباء" تتحكم في تقديم العناصر الواقعية وذلك من خلال تحرك الشخصيات وتفاعلها فيما بينها.
من الملاحظ أنه من خلال المسار العام الذي تتوجه فيه الرواية أن الروائي يقدم تراكمات حادة وفق رؤيا مأساوية من موت الشخصيات المجاني، أما نتيجة الاغتيالات، وأما نتيجة طبيعية للقهر والحرمان، أو نتيجة موت عادي، أو نتيجة للقمع المتمثل في السلطة ابتداء من الآغا والبيك والوقاف في القرية، إلى السلطة السياسية في المدينة التي تلاحق الشخصيات المعارضة وتقتلها إذا لم يستسلم.
و"يتصل موضوع الموت بالأدب أكثر مما يتصل به أي موضوع آخر حتى الحب، إذ يهيء الموت للأدب لحمته الحميمة، ولا يستطيع الروائي أو القاص أن يتخيل فعل الكتابة من غير أن يتوج حبكته الروائية أو القصصية بموت أحد أشخاصه أو بعضها" على حد تعبير كمال فوزي الشرابي (45). والموت في رواية "الوباء" حاضر متواصل في أقسام الرواية كلها، فمن البدايات الأولى يظهر على شكل اغتيالات، ففي القسم الأول "الشمس تغرب"، تأفل شمس شباب آل السنديان مسرعة على يد "آل العنز" الذين يقيمون لهم مأدبة ثم يغتالونهم:
"لم يعلم أحد علم اليقين كيف تم الأمر. سوى أن الليلة سميت ليلة الدم، الذي حدث أنهم وجدوا أنفسهم بغتة أسرى. ربطوهم بالحبال وشدوا وثاقهم. وبعدئذ أرسلوا إلى شيخ السنديان يطلبون حضوره ليشهد موت أبنائه" (46) ترفع راية الدم في غياب القوانين الحامية لكرامة الإنسان، بحيث يبدو الفضاء الذي تجري فيه الأحداث فضاء سحرياً غرائبياً في اغتيالاته ومذابحه، إذ تحيلنا الرواية إلى مجتمع بدائي في تشكلاته أولى، رغم أن زمن الأحداث ليس بعيداً "أوائل القرن العشرين"، فتبدو المذابح خبز الناس اليومي في رحلتهم المرة:
"... وفي ذلك المساء تزوج فتاة في السابعة عشرة، وبعد تسعة أشهر ولدت زوجته ابناً... وبعد أربعين عاماً قتل الابن عشرة رجال" (47). ولذا لا يخرج موت شداد عن الإطار العام للرواية، وطبيعي أن يموت بين عيدان الذرة، دمه معانق الأرض المعطاءة، منادياً بني جنسه الإنساني من فلاحين وعمال لإنقاذه.
***
لقد حدثت تحولات فكرية واجتماعية وتاريخية في فترة الأربعينات بعد استقلال سوريا. إذ بدأ الناس يعون المفاهيم الجديدة: "الإقطاعية، الرجعية، الطبقية، الاشتراكية، التاريخية" (48)، وفي الستينات ومع نهوض البورجوازية السورية وصراعها الحاد مع بقية الطبقات، وزيارة الوعي لهذه الطبقات، برز عبسي وشداد كوعيين تشكلا داخل المجتمع العربي مجسدين طرفي هذا الموضوع، كل يمثل طبقة، فإذا اعتبرنا أن شداداً يمثل طبقة "الشغيلة" التي تنام تحت الشمس الملتهبة في عز قيظها، ولا تكسب إلا الفتات المطعم بالمرارة والقهر، فإن عبسي يمثل الطبقة البورجوازية في أوج ازدهارها، فعلى سبيل المثال لو أخذنا بيت عبسي من خلال وصف الراوي له، لوجدنا أنه محصلة للفرز المادي لهذه البورجوازية، فكل أثاثه من فرز البورجوازية، التماثيل غربية، التلفزة غربية، السجاد غربي، وبوصفه الطبقي هذا لا شك أنه يحمل في أعماقه وعياً زائفاً لحقيقة الصراع، ولحقيقة الثورة الحقيقية، وذلك من خلال استهجانه لمواقف أخي شداد الذي يعتبرها عائقاً أمام تقدم الثورة. فهو يدين مواقفه الاشتراكية بشدة إن انسلاخ عبسي عن طبقته وتموضعه داخل طبقة جديدة فرضت قيمتها وسلوكها على حياته، وبالتالي جعلته عدواً لانتماءه الطبقية الأولى، وشكلت وعياً زائفاً جديداً لديه مغايراً للوعي الخلاق الذي تشكل لديه أيام كان طالباً في الثانوية، يقول لأخته خولة قبل انسلاخه: "إذا لم نقم بثورة ضد الفقر و"الاستغلال والتبعية، وقتها نكون مجرمين. إذا لم نقم بثورة على هذا الوضع الفاسد المتخلف، وقتها نكون مجرمين" (49).
وما أن يصل إلى أعلى السلم الاجتماعي، حتى يتنكر لكل مبادئه. أكبر تجار المدينة ومصاصي دمائها: رجب العز والدكتور محمد علي، وعمر الماوي، والعميد يوسف، والعميد سرحان، وأبو ثائر وأبو فراس وغيرهم. فهو وخولة مشغولان باستحضار الأماني العذبة في تنمية أموالهما، وشراء الشاليهات والربح والإرث وما شابه ذلك، وتموضعه الجديد هذا جعله يهمل المهام الرئيسية الموكولة إليه، قلما نجده يهتم بوظيفته فهو دائم التنقل من اللاذقية إلى دمشق وبالعكس في سبيل إنماء ثروته، مهملاً عمله وزوجته وبنتيه. ويحس بفيصل حاد بينه وبين زوجته "فدوى" ابنة البورجوازي الحمصي، وبينه وبين أخيه شداد رفيق صباه. ويتهمهم جميعاً بالسقوط والخطأ:
"راح يهز رأسه. على الدرب الصعب الطويل يسقط كثيرون. الذين يحسون أن الحياة قصيرة وأنها تمضي. هؤلاء يصيبهم الرعب.. وأدرك أنه حزين لأجلها. هذه التي منحها الحب والعمر. بقيت على السفح. بين الشعاب. أين الخطأ؟ أين الخطأ؟ لماذا أخطأوا كلهم؟ ملأه شعور بالرثاء، شعور حزين وحاد وكدر. لقد سقطت مثلما سقط غيرها: سوى أن سقوطها كان انكفاء على الذات. بسبب قصور الذات" (50) هل يعني أن هزائم عبسي النفسية المتلاحقة في "الوباء" من فشله في إقامة جسور التواصل الإنساني بينه وبين أقرب المقربين إليه: أخيه شداد وزوجته فدوى، وهذا الانكسار الحاد بينه وبين ابنته سوسن، ورغبته في أن يكون التواصل قائماً بينه وبين ابنته الثانية رحاب التي تمناها أن تحس بمأساته وتصنع له قهوة:
"لو أن رحاب تحس أن أباها بحاجة إلى فنجان قهوة. أحس بالوحدة بلا بؤس، ولا خوف، ولا أسف، أحس بالوحدة شأن الكبار الذين خلقوا لها" (51)، وعدم وضوح قدراته حول هل يستطيع إخراج كنعان من السجن وكف الملاحقة عن أخيه الثاني شداد، أو يستطيع الضغط على وزارة الصناعة لزيادة ثمن الأرض، هل تعني هذه الهزائم المتكررة هزيمة السلطة داخل السلطة، أم هزيمة للطبقة البورجوازية وفشلها في النهوض بالمهمات الملقاة على عاتقها، أم عدم قدرتها على بناء حضارة إنسانية ترفع لواء الإنسان بشرف؟ سؤال يبقى معلقاً... وتبقى الإجابة عنه محاولة غير دقيقة، تأخذ أكثر من منحى.
***
إن العلاقات التي تقوم بين الشخصيات، تخضع قبل كل شيء إلى طبيعة البنية الفكرية التي تحملها الشخصية، وهذه البنية هي التي تحدد طموح الشخصية تطلعاتها. فيلتقي حيان وشداد في رفضهما لممارسات السلطة، ويتفقان في مفهومهما للرؤية الثورية التي يحملانها، والتي استمداها من صديقهما المثقف الثوري "خالد"، الذي هو مصدر الوعي والفهم بالنسبة لهما.
في حيان نشاهد شداداً في أوج شبابه، إنهما الشباب الحالم بشروق الشمس رغم صقيع الكون ويلتقي عبسي وخولة في كثير من المواقف، خولة التي تدين شداد وتحبه في آن، وتراه مخطئاً أهوج، فقناعاتها مستمدة من "عبسي" السلطة، يندفعان معاً لشراء الشاليهات والغنى الفاحش.
ويلتقي عبسي مع رجب العز وعمر الماوي، والدكتور محمد علي، وآخرين، وفق علاقة تجارية حميمية وأمام المشاريع التجارية بينهما، ينسى رجب العز قضية الأرض –الميراث –التي تحتوي على المعادن الثمينة، وتذوب الخلافات الحادة بنيهما حول الأرض، في سبيل التعاون معاً على شراء الباخرة الراسية في الميناء، تجمعهم مصلحة واحدة. وفي سبيل المال –سيد القيم –يتوحدون.
إن عبسي الذي يدعي الإيمان بالثورة، وبإمكانات الحاضر وقدرته على التغيير، يجعله ينفر من ماضي "الشير"، وتنقطع صلته بجذور هذا الماضي تماماً، وفجأة تظهر قضية الميراث والمعادن –مع ما تحمله من إمكانيات الثراء وسرعان ما يعلن تصالحه مع هذا الماضي الذي يصبح حاملاً إمكانات كبيرة للمستقبل، لأن ثمة مالا جديداً يبرز من عمق هذا الماضي:
"ما تزال هناك جذور تربطنا بالماضي، وبأجمل ما في الماضي. وهي تظهر لنا لتحيينا، لتباركنا.. هذا الماضي فيه إمكانات كبيرة للمستقبل" (52).
***
*الخاتمة:
إن الفن الروائي عند هاني الراهب، ينطلق –محدداً مساره –من خلال الظروف الاجتماعية والسياسية التي تساهم في تشكيل معظم الأحداث، ومن خلال هذه الظروف عمد إلى التركيز على البؤر القائمة التي تفرض نفسها على المجموع الإنساني، وعرى زيف العلاقات القائمة داخل المجتمع الطبقي.
حتى يمكن القول أن رواية "الوباء" بلغت هدفها نتيجة لاستجابتها لتأملات القارئ، وحثه على تجاوز العلاقات الظاهرية، إلى الكشف عن أبعادها الداخلية.
ومن خلال الرؤية المأساوية العامة في الرواية، نلاحظ أن الكاتب لا يستشرف أبعاد المستقبل، فالحاضر محاصر ببطر البورجوازية، ولا يمكن له أن يتحرر من هذا البطر.
صحيح أنه استغل شخصية شداد منذ البدايات الأولى لتشكيلات وعيه –أي شدا –لكن موته في النهاية، لا يبشر بأن مستقبلاً مشرقاً سيأتي قريباً، ولذا يخرج القارئ بخيبة مرة، عند انتهاء قراءته للرواية ومعظم الشخصيات تلاحق بخيبة فشل مر، شداد يموت دون أن يرى زوجته كحلم أخير، وخولة لم تشتر الشاليه، وعبسي لم يخرج كنعان من السجن.
ولم يستطع توحيد الرؤى الممزقة بينه ويبن زوجته (فدوى) فخسرها وابنته (سوسن) وإسماعيل السنديان لم يحصل على الإرث "عز آل السنديان الزائل" وحسن الغفري يموت برصاص السلطة، وبديع ورمضان –ولدا حسن الغفري –مازالا في السجن.
وهكذا تنتهي الرواية بمؤشرات على أن ثمة هزائم تلاحق أهم الشخصيات سواء أكانت شريفة، أم انتهازية.
ويرى هاني الراهب، بالرغم من أن سوريا حصلت على الاستقلال، وطردت الغريب المحتل عام 1946، وحققت قفزات حضارية وريادية على أكثر من مستوى، فإن وباء ما زال يضرب جذوره في أعماق الحياة الحاضرة، وقد بيَّنا أهم جوانبه في هذه الدراسة السريعة.