كانت جالسة في قاعة الانتظار على الكرسي الذي على يميني، تتمعن كل من حولها وكأنها تبحث عن شخص تعرفه. سيدة ستينية، بلباسها المحتشم، جلباب طويل بني وحجاب حريري أبيض يعكس نور وجهها الذي يحمل بين طيات تجاعيده تاريخا مليئا بالتحديات. كانت تنظر إلي بين الفينة والأخرى، فأبتسم لها فترد الابتسامة.
مرت عشر دقائق، فعلت على وجهها ملامح فقدان الأمل في العثور على ونيس لها في القاعة، ففتحت حوارا معها قائلة:
- هل هذه زيارتك الأولى للطبيب؟
تنفست الصعداء وكأنها أخيرا ستخرج من غربتها، فأجابت وهي تتفحص وجهي:
- نعم، وأنت؟
رددت بالمثل، فأكملت حواري معها:
- هل أتيت بمفردك؟
أومأت برأسها إيجابا، فقلت:
- ألديك أبناء؟
تهلل وجهها متذكرة أبناءها فقالت:
- لدي بنت وولد
صمتت قليلا واستطردت والبسمة لا تفارق محياها:
-علا هي الكبري، هي الشقية، تتعبني معها. أما علي فهو مدلل الأسرة، هادئ ووديع.
بلعت ريقي وقلت:
- تحبين ابنك أكثر من ابنتك إذن؟
تجهم وجهها وردت بقوة:
- من يفرق بين فلذات كبده؟ بالعكس رغم شقاوتها هي بهجة البيت، حين تبيت عند جدتها أحس بالوحدة.
لمعت عيني تنذر بدمعة على أبواب جفنيها تأثرا بقولها، فاستدرت صوب الكاتبة ومسحتها بخفة ثم عدت لمحدثتي قائلة:
- أين ابناك الآن؟
فقالت:
- تركتهما مع جدتهما، فرغم أن علا تبلغ السبع سنوات لكنها لا تستطيع العناية بعلي ذو السنتين. لذلك أتركهما عند أمي حين تكون لدي مشاوير أقضيها في الخارج.
هززت رأسي متفهمة لما فعلته، فباغتتني بالسؤال:
- وأنت، ألديك أبناء؟
ابتسمت وأجبتها وأنا أخرج هاتفي من جيبي أبحث عن صورهما:
- لدي توأم خديجة ورقية.
انحنيت تجاهها وبدأت أريها ألبوم صورهما بمختلف مراحل عمرهما من الولادة حتى سنهما اليوم الخمس سنوات. حزنت حين أريتها صورتهما باكيتين، فرحت عند رؤية ابتسامتهما وضحكت على صورة لخديجة تحاول إدخال نفسها في آلة الغسيل وعلى صورة رقية تحاول حمل البطيخ من الأرض بيديها الصغيرتين، وهكذا استمرت تتفاعل مع كل صورة. وحين انتهيت من الصور قالت:
- جميل منك أن توثقي لحظاتهما، عكسنا نحن لا نملك آلة تصوير لنفعل، لا نصور ابنينا إلا في كل دخول مدرسي.
أحسست بحزة نفسها فقلت مخففة:
- أنا أيضا لا أملك الكثير من الصور الورقية لي، لكن الصور التي في ذاكرتي كثيرة. وأراك أيضا تملكين الكثير منها في ذاكرتك عن ابنيك، يكفي أن وجهك تهلل حين سألتك عنهما.
كانت طوال جملتي تلك تتأمل ملامحي، فختمتها بابتسامة فابتسمت أيضا وقالت:
- نعم صحيح.
ثم سألتني بفضول:
- أسبق والتقينا من قبل؟
أجبتها وأنا أحاول جاهدة أن أخفي حزني:
- وأنا أيضا أحس أني أعرفك منذ زمن بعيد.
ابتسمت وبدأت تدعو لي بالخير، أني سليتها في لحظات انتظارها، فقلت شاكرة:
- أنت أيضا آنست وحدتي هنا، أطال الله عمرك وشافاك.
أمنت دعائي، ثم سألتني بلهفة:
- مع من تركت صغيرتيك؟
فقلت:
- تركتهما مع أبيهما.
وبحثت عن صورة لنا معا، فأريتها صورته، فمدحت وسامته مما أبهجني، ثم بحثت عن صورة لزفافي وقلت:
- أنظري إلى هذه، وقولي بصدق من الأجمل أنا أم هو.
ضحكت على سؤالي ونظرت بتمعن وقالت:
- ما شاء الله، بعض المساحيق أظهرتك فاتنة الجمال.
فقلت بتواضع:
- لذلك لا أضع المساحيق، رأفة بالمجتمع .
فضحكت حتى ظهرت نواجدها، مما أغبط قلبي.
فاستغللت الفرصة وقلت:
- أتحبين أن ألتقط صورة معك.
قبلت بسرور فخلدت ذكرى حوارنا بصورة على هاتفي.
فنادت الكاتبة باسمها فقمت من مكاني، ومددت يدي إليها قائلة:
- هيا، لقد حان دورك يا أمي.
توجهنا إلى غرفة طبيب المخ والأعصاب وأنا كلي ثقة أنها ستنسى لقاءنا ما إن تخطو خطواتها إلى الداخل، لكني سأظل أحتفظ بهذه الذكرى في قلبي قبل عقلي. لو تعلمين كم اشتقت إليك يا أمي..