لقد عاد سين، لقد عاد سين!
علت صيحات سكان كوكب المريخ، وهم يرون مركبة سين الفضائية تقترب من المحطة لترسو بعد غياب طال ستة أشهر، ظنوا خلالها أنهم فقدوه للأبد.
تقدم كبيرهم لاستقباله، وما إن حطت قدماه السطح حتى تعالت الهتافات "مرحى مرحى عاد سين! مرحى مرحى عاد سين"
كان سين فرحا بهذا الاستقبال الرائع، لكن بهجته تلك لا تضاهي سعادته بما اكتشفه في رحلته.
أقيم حفل كبير اجتمع فيه كل السكان- فلم يكن عددهم يتجاوز العشرين فردا- فقد كانوا متشوقين لمعرفة تفاصيل رحلة صديقهم، وكان لين أكثرهم فضولا لذلك.
افتتح كبيرهم الحفل قائلا:
- على شرف عودة مغامرنا سين، نبدأ هذا الحفل.
تعالت تصفيقات وصفير الجميع، بعدها أكمل غامزا:
- سين تعرف أننا لن نتركك تنام حتى تحكي لنا عن رحلتك.
ابتسم سين مؤيدا لقول الكبير، وبدأوا بالرقص والغناء. وبعد ساعة تقدم سين للمنصة وبدأ بسرد مغامرته:
- شكرا شكرا لكم سكان كوكبنا العزيز، أعرف كم كان توجسكم حول غيابي الطويل، فكل رحلاتنا لا تتجاوز مدار كوكبنا، لأول مرة أقرر فيها السفر خارج المدار لاكتشاف الفضاء الواسع، والبحث عن حياة أخرى على سطح كوكب آخر. وفعلا تم لي ذلك.
شخصت أبصار الجميع وهو يقول جملته الأخيرة، فابتسم وقال:
- نعم، لقد اكتشفت كوكبا آخر غير كوكبنا هذا تدب فيه الحياة.
علت همسات الجميع يتساءلون عن هذا الكوكب، فصاح لين باهتمام:
- أخبرنا من البداية عن اكتشافك يا سين.
قال سين مؤكدا:
- خلال رحلتي رأيت في الفضاء كوكبا أثار انتباهي، هو كوكب الأرض الأزرق الذي بدا كلوحة فنية تصور جمالاً خالداً. لم أستطع أن أمنع نفسي من إكمال المسير إليه. وعندما نزلت على سطحه أخيرا، رأيت جماله حقيقة وشعرت كأنني في عالم من الأحلام.
فسأل لين فضولا:
- هل يختلف عن كوكبنا لهذه الدرجة؟
صاح سين:
- كل الاختلاف، هواءه العليل ينساب بين خوالج الروح، مناظره الخلابة بين جبال تكسوها ألوان من أنواع الزهور، غابات خضراء، وديان رقراقة وبحيرات زرقاء صافية كالمرايا. فقادني الشوق للبحث عن حياة تدب في كل زاوية من زواياه، وفعلا.
صمت برهة ليشد انتباههم ثم أكمل:
- كانت هناك مخلوقات تعيش على سطحه، حسنة الصورة تعلو أجسادها قطع ثوب متعددة الألوان والأشكال تزيدهم جمالا، يسمون البشر. أكثر ما أعجبت به عنهم تعاملهم فيما بينهم بالمحبة والسلام. وأنا أتجول خفية بينهم شعرت بالأمان والراحة بينهم، مثل ما نشعر جميعا في كوكبنا العزيز.
علت البسمة محيى الجميع وصاحوا:
- مرحى مرحى !
استمر الحفل بحماس أقوى من بدايته، وحين جن الليل غادر الجميع كل لمسكنه عدا لين استلقى على ظهره وبدأ يتأمل السماء المظلمة وبدأ يتخيل ما وصفه سين في رحلته. كوكب أقل ما يقال عنه أنه رائع، لابد من زيارته ورؤية كل ما حكى عنه بعينيه، وما إن أشرقت الشمس حتى بدأ بالتجهيز للسفر.
لم يبخل عليه سين بالارشادات والمواقع حتى يصل وجهته دون مشاكل. وها هو اليوم المنشود قد حان.
اجتمع السكان لوداع لين، داعين له بالسلامة في رحلته وما هي إلا دقائق حتى اختفى عن الأنظار.
مرت أربعة أشهر وهو بين النجوم حائما، دون أن يظهر له الكوكب المنشود. ظن أنه أخطأ الطريق فقرر العودة أدراجه وفجأة، لاح كوكب في الأفق مختلف عن كوكبه فصاح:
- أخيرا وجدتك.
لم يمض أسبوع حتى وجد نفسه يحط على سطح كوكب الأرض. فتح باب مركبته و كله شوق لرؤيته عن قرب. لكنه صدم لما رآه.
رأى ركاما في كل مكان، لا أثر للخضرة والزرقة وألوان الزهور التي تحدث عنها سين!! وحتى الهواء، الهواء مثقل بالغبار ودخان القذائف ورائحة الموت، هواء يجتث الروح من جدورها. لم يصدق ما رأته عيناه، هل يا ترى أخطأ وجهته، أتراه كوكبا آخر؟ فقرر البحث عن البشر ليتأكد من مكانه. استخدم خاصية الاختفاء وصار يبحث عنهم. رأى خيمة فوجد بداخلها عشرين فردا، فاستغرب كيف تسع هذه الخيمة لعدد سكان كوكبه! تفحص وجوههم فلمح القهر وقلة الحيلة. رغم ما يبدونه من رباطة جأش، حين جن الليل صحى الألم في صدورهم فمزقها وخرج عبرات وآهات من عيونهم وأفواههم. من يبكي فراق أبيه ومن يبكي فراق ابنه وآخر يبكي حفيدته، وصغير ابن الستة أشهر يبكي من الجوع.. اجتمعوا في المصاب واجتمعوا في الصبر، كل منهم يصبر من بجواره وكأنه يصبر نفسه بصوت عال. خرج ليتفقد باقي الخيام فوجدها تضم نفس المعاناة بين طياتها. فأحس بضغط يطبق على صدره وغصة في حلقه، فتساءل حائرا:
- أين الراحة التي تحدث عنها سين؟
كاد يجن وما زاد جنونه صوت القنابل ترمى على البلدة كوابل من المطر. خرج ليعرف مصدرها وبقوة نظره رأى بشرا من يقذفونها على بشر مثلهم، فقال يائسا:
- ألا يفترض أنهم يتعاملون فيما بينهم بالمحبة والسلام؟!
لم يطق لين البقاء يوما آخر في هذا الكوكب، أحس بخيبة الأمل، وخالجه الحنين لكوكبه، فركب سفينته وعاد أدراجه.
طوال الطريق لم تغب عن عينيه تلك المناظر، مناظر لا تعبر إلا عن الوحشية وقسوة القلب، لا يزال غير مصدق لما رآه بأم عينيه. فتساءل:
- كيف سأخبر سكان كوكبي بما رأيته هناك؟ هل سيصدقون؟
طبعا سيفعلون فلا يعرف عن لين سوى الصدق في كوكبه. فأكمل قائلا:
-أيستطيعون تجرع مرارة هذا الواقع المؤسف عن كوكب الأحلام؟
علم أنهم لن يستطيعوا ذلك، فقرر إخبارهم أنه تاه في الفضاء وعاد أدراجه، ويترك كوكب الأرض جميلا كما تخيلوه.
حطت المركبة على الوطن، فخرج لين على هتافات أحبائه، فابتسم لقلوبهم الطيبة و استنشق هواءها الخالي من خيبات الأمل، فأقسم ألا يغادر كوكبه مجددا.