بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
اللهم ارزقنا الصبر عند البلاء ، والرضا بالقضاء
اللهم لا عظيم الا انت ولا رحيم الا انت ولا كريم الا انت ولا معطي
الا انت ولا اله الا انت
هذه أخلاقنا... وتلك أخلاقهم! (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد أثارت تلك المشاهد التي وقعت من الأسرى اليهود تجاه رجال المقاومة انتباه الكثيرين، فهم يودعون مَن أسروهم وكأنهم أهلهم! وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تلك المعاملة الراقية التي تلقوها أثناء فترة الأسر من قِبَل المسلمين. وهذا الأمر وإن تعجب منه غير المسلمين، لكنها أخلاق المسلمين… أخلاقنا التي أرساها للأمة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث بعثًا أو سرية أوصاهم: ((اغْزُوَا بسمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتَلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)) (رواه مسلم)، فالغاية واضحة من البداية، وكذا أخلاقنا حال غزونا وبعده. ولما وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة مقتولة غضب، وقال: ((مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ)) (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان إلا إذا قاتلن؛ فالمجاهد يعرف غايته، وهي: إعلاء كلمة الله ونشر دين الله، وليس طلب دنيا ولا سفك الدماء، ليس يتلذذ بقتل البشر؛ إنما هو يريد إنقاذ البشرية من السقوط في النار بكفرها، ويريد إيصال النور والهدى إلى كل خلق الله. إن كلمة: (فِي سَبِيلِ اللهِ) حاكمة لكل سلوكيات الحرب وتصرفات المجاهدين، وما الوفاء بالعهد والعفو والتسامح والإحسان والعدل؛ إلا امتثال لتلك القاعدة الخلقية السامية. والناظر إلى حروب المسلمين قديمًا وحديثًا يظهر له بجلاء تطبيق هذه القواعد والمحافظة عليها؛ قال غوستاف لوبون: "ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب"؛ يقصد المسلمين. وقال توماس أرنولد في سياق حديثه عن عدل المسلمين في فتوحات الشام: (ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن، وعسكر أبو عبيدة في (فحل) كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا ومنازلنا!). ولا أريد أن أطيل في هذا السياق لأنتقل إلى بعض المقارنات بين أخلاقنا وأخلاقهم، وكيف هم في الحروب: كم بلغ عدد القتلى في حروب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة؟ وكم عدد القتلى في حروبهم؟ السرايا والبعوث والغزوات خلال عشر سنوات بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كم كان عدد مَن قتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ رجل واحد، وهو أُبَي بن خلف في غزوة أُحُد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يقتل بيده أحدًا لا قبلها ولا بعدها). وعدد القتلى من الفريقين في كل هذه الحروب يتراوح ما بين (625) إلى (1018) قتيل تقريبًا، ومن الطرفين لم يقتل من النساء سوى مَن تقدمت - المرأة التي وجدوها مقتولة وقال (ما كانت هذه لتقاتل) -، ولا الشيوخ ولا الأطفال، ولم توجد حالات اغتصاب للنساء. كم عدد القتلى في الحرب العالمية الأولى والثانية؟ في الأولى حوالي 10 ملايين، أما في الثانية فأكثر من 60 مليون قتيل! ماذا قال؟ وماذا فعل -صلى الله عليه وسلم- بأهل مكة لما فتحها وهم مَن عذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم وأجلوهم عن بلادهم؟ ماذا فعل بهم -صلى الله عليه وسلم-؟! وماذا فعل أصحابه ومن بعده من قادة المسلمين في قتالهم؟ وكيف كانت أخلاقهم؟! التاريخ يوقفنا على جوانب عظيمة من ذلك: ثار بعض سكان لبنان على عاملهم علي بن عبد الله بن عباس، فحاربهم وانتصر عليهم، ورأى أن مِن الحكمة أن يفرقهم ويجلي فريقًا منهم عن ديارهم إلى أماكن أخرى، وهذا أقل ما يمكن أن يفعله اليوم حاكم في أرقى الأمم، فما كان من الإمام الأوزاعي -رحمه الله- إمام الشام ومجتهدها وعالمها، إلا أن كتب إلى والي لبنان رسالة ينكر عليه ما فعل، من إجلاء بعض اللبنانيين عن قراهم، ومعاقبة مَن لم يشترك في الثورة كمن اشترك فيها. وكان مما كتب إليه في ذلك: (وقد كان إجلاء أهل الذمة في جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت؛ فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله -تعالى-: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (النجم: 38)، وهو أحق ما وُقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قال: ((مَن ظلم معاهدًا أو كلَّفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة)) )، فما كان من والي لبنان إلا أن ردهم إلى قراهم معززين مكرَّمين! هذه أخلاقنا... وتلك أخلاقهم! (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنستكمل حديثنا عن أخلاق أهل الإسلام في الحرب والجهاد في سبيل، والفرق بينهم وبين الكفار في ذلك.
لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، وَفَد إليه قوم مِن أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن (قتيبة بن مسلم) قائد الجيش الإسلامي فيها، دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين غدرًا بغير حق، فكتب عمر إلى عامله هناك أن ينصب لهم قاضيًا فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين من سمرقند أُخرِجوا. فنصب لهم الوالي (جُميع بن حاضر الباجي) قاضيًا ينظر في شكواهم، فحكم القاضي وهو مسلم بإخراج المسلمين! على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم، وفقًا لمبادئ الحرب الإسلامية، حتى يكون أهل سمرقند، على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة. فلما رأى ذلك أهل سمرقند، رأوا ما لا مثيل له في التاريخ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها! فقالوا: هذه أمة لا تحارب، وإنما حكمها رحمة ونعمة. فرضوا ببقاء الجيش الإسلامي، وأقروا أن يقيم المسلمون بين أظهرهم.
أرأيتم جيشًا يفتح مدينة ويدخلها، فيشتكي المغلوبون للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر ويأمر بإخراجه، ولا يدخلها بعد ذلك إلا أن يرضى أهلها؟!
أرأيتم في التاريخ القديم والحديث حربًا يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق، كما تقيد به جيش حضارتنا؟! إني لا أعلم في الدنيا كلها مثل هذا الموقف لأمة من أمم الأرض!
ولما فتحت جيوشنا الظافرة دمشق وحمص وبقية المدن السورية، وأخذوا من أهلها مبالغ من المال صلحًا لقاء حمايتهم والدفاع عنهم، رأى قادتنا بعد أن جمع هرقل لهم الجموع لينازلهم في معركة فاصلة، أن يُخلوا المدن المفتوحة، ويتجمعوا في مكان واحد ينازلون به الروم مجتمعين، وخرج جيشنا من حمص ودمشق والمدن الأخرى، وجمع خالدٌ أهلَ حمص، وأبو عبيدة أهلَ دمشق، وغيرهما من القادة أهل المدن الأخرى، وقالوا لهم: إنا كنا قد أخذنا منكم أموالًا على أن نحميكم وندافع عنكم، ونحن الآن خارجون عنكم لا نملك حمياتكم، فهذه أموالكم نردها إليكم! فقال أهل المدن: ردكم الله ونصركم، والله لحُكمُكم وعدلُكم أحب إلينا من جور الروم وظلمهم. والله لو كانوا مكانكم لما دفعوا إلينا شيئًا أخذوه، بل كانوا يأخذون معهم كل شيء يستطيعون حمله!
نعم، كما تفعل الجيوش في العصر الحاضر اليوم حين تضطر للجلاء عن مدينة لا تترك فيها أثرًا ينتفع منه العدو.
فهل سمعتم بمثل هذا؟!
وفي حروب التتار في بلاد الشام، وقع بأيديهم كثيرٌ من أسرى المسلمين والنصارى واليهود، ثم تدخل شيخ الإسلام ابن تيمية مع أمير التتار في أمر الأسرى، وفك أسرهم، فأجابه الأمير إلى فك أسرى المسلمين فقط دون النصارى واليهود، فأبى شيخ الإسلام وقال له: لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة!
أما حضارتهم... فماذا كانت أفعالهم؟!
هل أتاكم نبأ الحروب الصليبية التي شنها علينا الغربيون في القرون الوسطى؟!
أما سمعتم كيف كنا نفي ويغدرون، ونصفح وينتقمون، ونصون الدماء، ويخوضون فيها إلى الركب وهم يتلذذون ويطربون؟!
حين وَصَل الصليبيون في الحملة الثانية إلى معرة النعمان حاصروها حتى اضطر أهلها للاستسلام، بعد أن أخذوا من رؤساء الحملة عهودًا مؤكدة بالمحافظة على النفوس والأموال والأعراض، فما كادوا يدخلونها حتى ارتكبوا من الفظائع ما تشيب له الولدان، وقدَّر بعض المؤرخين الإفرنج الذين كانوا في هذه الحملة عدد الذين قتلوهم من رجال ونساء وأطفال بمائة ألف!
ثم تابعوا سيرهم إلى بيت المقدس، وشددوا الحصار على أهلها، ورأى أهلها أنهم مغلوبون لا محالة فطلبوا من قائد الحملة (تانكرد) الأمان على أنفسهم وأموالهم، فأعطاهم رايته يرفعونها على المسجد الأقصى ويلجؤون إليه آمنين على كل شيء. ودخلوا المدينة بعد ذلك، فيا لهول المجزرة، ويا لقسوة الإجرام! لجأ سكان القدس إلى الأقصى الذي رفعوا فوقه راية الأمان، حتى إذا امتلأ بمن فيه من شيوخ وأطفال ونساء ذُبِحوا ذبح النعاج، فسالت الدماء من المسجد حتى ارتفعت إلى ركبة الفارس، حتى كانت شوارع المدينة تعج بالجماجم المحطمة، والأذرع والأرجل المقطعة، والأجسام المشوهة!
ويذكر مؤرخونا أن عدد الذين ذبحوا في داخل المسجد الأقصى فقط سبعين ألفًا! منهم جماعة كبيرة من الأئمة والعباد والزهاد؛ فضلًا عن النساء والأطفال. ولا ينكر مؤرخو الفرنج هذه الفظائع، وكثير منهم يتحدثون عنها فخورين!
أما حضارتنا وبعد 90 سنة من هذه المجزرة فتح صلاح الدين بيت المقدس فماذا فعل؟ لقد كان فيها ما يزيد عن مائة ألف غربي بذل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم، وسمح لهم بالخروج لقاء مبلغ قليل يدفعه المقتدرون منهم، وأعطاهم مهلة للخروج أربعين يومًا، فجلى منهم أربعة وثمانون ألفًا لحقوا بإخوانهم في عكا وغيرها، ثم أطلق كثيرًا من الفقراء من غير فدية، وأدى أخوه الملك العادل الفدية عن ألفي رجل منهم، وعامل النساء معاملة لا تصدر عن أرقى ملك منتصر في العصر الحديث.
ولما أراد البطريرك الإفرنجي أن يخرج، سمح له بالخروج ومعه من أموال البيع والصخرة والقيامة (كالنذور) ما لا يعلمه إلا الله، واقترح بعض حاشية صلاح الدين عليه أن يأخذ ذلك المال العظيم، فأجابه السلطان: (لا أغدر به) ولم يأخذ منه إلا ما كان يأخذه من كل فرد، ومما يزيد في روعة هذا العمل الإنساني الذي عمله صلاح الدين في فتح بيت المقدس، أنه أرسل مع جماهير الغربيين الذين نزحوا من القدس من يحميهم ويوصلهم إلى أماكن الصليبيين في صور وصيدا بأمان، مع أنه لا يزال في حرب معهم! فهل تستطيعون أن تضبطوا أعصابكم حين تسمعون مثل هذا؟
واسمعوا بقية القصة... فقد اجتمع كثيرٌ من النساء اللواتي دفعن الجزية وذهبن إلى السلطان يتوسلن إليه قائلات إنهن إما زوجات، أو أمهات، أو بنات لبعض من أُسِر أو قتل من الفرسان والجنود ولا عائل لهن ولا مأوى، وأمر بالبحث عن الأسرى من رجالهن، وأطلق الذين وجدهم وردهم إلى نسائهم. أما اللواتي مات أولياؤهن فقد منحهن مالًا كثيرًا، جعلهن يلهجن عليه بالثناء أينما سرن.
ثم سمح لهؤلاء الذين أعتقهم أن يتوجهوا مع نسائهم وأولادهم إلى سائر إخوانهم اللاجئين في صور وعكا.. فعل هذه بينما قصد بعض الفقراء الغربيين الذين تركوا القدس بعد فتحها إلى أنطاكية فأبى أميرها الصليبي أن يقبلهم فهاموا على وجوههم حتى آواهم المسلمون. وذهب فريق منهم إلى طرابلس وهي تحت حكم اللاتين. فطردوهم وأبوا قبولهم وسرقوا أمتعتهم التي منحهم إياها المسلمون!
إن قصة صلاح الدين مع الغربيين في الحروب الصليبية تشبه الأساطير، ولولا أن الغربيين أنفسهم لا يكاد ينتهي عجبهم من نبل هذا البطل الخالد وسمو أخلاقه لكان هناك مجال لاتهام مؤرخينا بالمبالغة.
والغربيون أنفسهم هم الذين يذكرون عن صلاح الدين أنه بلغه مرض ريتشارد قلب الأسد – أكبر قواد الحملات الصليبية وأشجعهم – فأرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص يحمل إليه العلاج والفواكه التي لا يمكن أن يحصل عليها ذلك القائد الصليبي. هذا والحرب بينهما مستعرة وجيشاهما في صراع! وهم الذين يذكرون أن امرأة غربية ألقت بنفسها على خيمة السلطان صلاح الدين تبكي وتولول وتشكو إليه أن اثنين من جنود جيشه خطفا لها ولدها، فأرسل صلاح الدين وأرسل مَن يفتش عن الولد حتى وجدوه وسُلم إليها. وأرسلت بحراسة الجيش إلى معسكرها آمنة مطمئنة، فماذا يقول قائل بعد هذا؟!
إيهاب الشريف
بوابة الفتح
تحيتي
والله الموفق