🟢من حقوق القرآن الكريم
إنّ أعظمَ نعمة امتنّ الله بها على أمة الإسلام إنزال القرآن؛ ذلك الكتاب الذي لا غموض فيه ولا التباس، قال الله تعالى ممتناً: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، وقال الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44].
فإنزال الكتاب على هذه الأمة هو أكبر النعم، والنعمُ بعده موازنةً به مزيدُ فضل وإحسان من الغني الكريم.
ولا أدلَّ علي ذلك من حسد الأمم السابقة هذه الأمةَ على تلك النعمة العظيمة، فقد جاء عمرَ بن الخطاب رجلٌ من اليهود فقال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة".
والقرآن هو حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وأفلح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وفي الطبري وابن كثير والقرطبي، "حبل الله: القرآن"
ورحم الله الإمام الشاطبي إذ يقول في حرز الأماني:
وبعدُ فحَبلُ الله فينا كتابُه
فجاهِد به حِبلَ العِدا مُتحبِّلا
وأخلِق به إذ ليس يخلُق جِدّة
جديدًا مُوالِيه على الجِد مُقبلا
وما مثلنا إلا كقوم في أرض تعج بالسباع، ولا سبيل للأمان فيها إلا بالدخول في حصن وحيد بها، فالحصن كتاب الله، والسباع ما نرى من الفتن التي تدع الحليم حيراناً، فعن الحارث قال: "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم قال: أما إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم"
وأنَّى لهذه الأمة التي أعزها الله بالإسلام والقرآن أن تجد عزة في سواه، وأن تتبوأ ذرى المجد بغيره.
ولهذا الحصن الحصين والدرع المتين، وكلام رب العالمين، حقوقٌ يجب أداؤها، وواجباتٌ لا بد من القيام بها، وفي ما يلي بيانُ بعضها:
حق الإيمان والتصديق:
وهذا الحق لا يكون العبد مسلماً إلا بأدائه، وهو الذي من أجله قام سوقُ الجنة والنار، وجردت سيوف الجهاد، وسالت دماء الأطهار والكفار، وقد تكررت الأوامر الإلهية به، مبينة أنه من أوجب الواجبات؛ قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 170]، وقال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، قال القرطبي والبغوي والشوكاني والواحدي وغيرهم: "الكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن"