"حُـلم الزمـن الحـاضـر"
ـــــ
يا له من جو جميل وجذاب !
والشمس صافية زرقاء كما تبدو بنورها الساطع شاهقة تطل من عليائها شامخة
على من يستظل بظلها في أريج جو خريفي بهيج، والنسيم عليل بعطره الفواح كما الطيور حين تغرد وتشدو ،،
يوم يكاد يختلف عن كل الأيام التي قضيتها بهذه المدينة بالرغم من كون قاطنيها أناسا طيبين ولا تفارقهم البشاشة ،ولكن لحظة الفراق الصعبة قد حانت ؛
فالطائرة رابضة بالمطار تنتظر ركابها ،
ولم يبق على موعد إقلاعها سوى لحظات قليلة، ولـ كم يحز في نفسي فراقها والرحيل المؤقت عن عالمها الجميل الذي سكنني إلى فضاء مغاير عنها كليا.
هذا ما أخبرني به أخي الأكبر "عمران" الذي يتواجد هناك منذ سنوات، فـ قد أطلعني على تفاصيل التفاصيل الصغيرة لساعات عبر الهاتف ، حيث أشعرني بأن العاصمة الفرنسية مميزة وفريدة بأعمالها وحدائقها مع دؤوب حركتها التي تدب معها الحياة،
ولا تتوقف عبر شوارعها الفسيحة كل حين.
لم تمض إلا سويعات قليلة حتى لمحت "برج إيڤل" من نافذة الطائرة،
آه..!ٕ يبدو لي بأني سرحت كثيراً في زحمة التفكير ولم أنتبه لمرور الوقت بهذه السرعة التي تسابق البرق!
وصلت الطائرة بسلام وحطت بمطار "شارل ديغول" ،ولكن متاعب الرحلة لم تبدأ بعد حيث ينتظرني كما ينتظر كل القادمين والوافدين الجدد على باريس هذه الأيام مجموعة من التدابير والاجراءات التفتيشية المعقدة والمتعبة، والتي لم تكن هكذا قبل السابع من أكتوبر/تشرين لحظة "طوفان الأقصى"، هذا ما أطلعني عليه "عمران" وهو يوجهني قبل إقلاع الطائرة من مطار مراكش الدولي، حين أخبرني بأن هناك ظروفا مستجدة فرضت على الجميع وهاجس الخوف من المجهول يسيطر على المسؤولين بالعواصم الغربية من القيام بعمليات انتقامية تمس الدول الداعمة لدولة الاحتلال، وما تقوم به من مجازر ومذابح في غزة وفلسطين،،
حيث أن كل مسافر معرض للمراقبة الصارمة والاستنطاق الدقيق فور وصوله
حتى من دون تهمة مسبقة.
قبل أن يحين دوري في غرفة التفتيش تقدمت قليلا إلى المقاعد الأمامية
لعلي أكسب بعض الوقت ولو أن السلحفاة تطير فلن أصل مع هذه الوثيرة !
هكذا يخيل إلي مع هذا الوضع الغريب الذي لم أعتده بكل ما فيه،
فجأة وفي غمرة معركة التيه سمعت صوتا أنثويا جميلا بلكنته الفرنسية من بلاد "موليير"، وكأنها تنادي باسمي لكنها ابتلعت حرف العين ونادتني بـ "أميغ أدلاني" بدل "عامر عدلاني"
( المرجو من السيد "عامر عدلاني" الذي يحمل رقم 11/11
أن يتجه فورا صوب الغرفة رقم 03 )
هنا استغربت الأمر لأن كل من سبقوني اتجهوا إلى الغرفتين إما 01 أو 02،
قلت مع نفسي لربما ومع زحمة المسافرين قد أعدوا غرفة أخرى لتسريع وثيرة العملية التفتيشية،،
اتجهت على جناح السرعة إلى الغرفة المحددة ،فاستقبلني رجل طويل القامة، أنيق الملبس والمظهر، وكأنه بملامح " جان رينو " من فيلمه " ليون المحترف"..
لاحظت من خلال مقامي القصير بالمطار بأنه الشخص الوحيد الذي لا يرتدي الزي الموحد للموظفين هنا ،
وهنا بادرني بالسؤال من دون مقدمات وبلغة عربية سليمة:
- ما هو هدفك من هذا السفر يا عامر ؟
أجبته كذلك من دون تردد:
- قدمت إلى باريس لقضاء بعض الأمور الشخصية والتكوينية في محال تخصصي،،
- ما هو اسمك الحقيقي؟ و عرفني بمعلوماتك التعريفية ومهنتك لو سمحت،،
- عامر عدلاني، 36 سنة ، من مراكش/ المغرب،
أعمل كـ تقني في مجال الاتصالات (مُطور تطبيقات برمجية) وأنظمة الحاسوب.
- قلت قبل قليل بأن لك أهدافا شخصية من الزيارة،، أحب أن تطلعني عليها؟
هنا أحسست بأن الأمر يتجه لأمر ما أجهله ، كيف له أن يسألني أسئلة شخصية ويستنطقني هكذا ..! لكني تحملت امتعاضي وأجبته:
-لدي أخ أكبر يقطن هنا بعاصمة أنواركم باريس، وسيقيم حفل عقيقة بعد غد بمناسبة أول مولود يؤثت بيته وقد وجه إلي دعوة خاصة بالمناسبة وألح علي للحضور ومقاسمته الفرحة هو وزوجته .
كما أني سأحضر دورة تكوينية متعلقة بالذكاء الصناعي وعلاقته بتكنولوجيا المعلومات والاتصال.
ثم قال وكأنه غير مكثرت بما أقول،،
- وماذا بعد؟
- سيدي لم أفهم غايتك من هذا السؤال،فقد أجبتك بكل وضوح على استفساراتك بالرغم من أنها تمس حياتي الشخصية بالرغم من أن معطيات سفري مدونة عندكم سلفا، وهي ما أعدت إخبارك بها الآن..!
ثم جاءت لحظة الصدمة والمفاجأة ..!!
- عامر عدلاني إن كل مواصفاتك مطابقة للشخص المبحوث عنه دوليا عبر إخبارية وزعتها بشكل مستعجل شرطة "الانتربول" المحلية.
قاطعته في ذهول،،
- أي مواصفات هذه..!؟ وأي اتهام خطير هذا الذي يوجه إلي! هل تعي جيدا ما تقوله ! هل أنت أحمق !
مسيرة حياتها كلها صفحة بيضاء بلا أي تهمة ولو كانت مجرد جنحة بسيطة لتأتي أنت وتضعني موضع اتهام واشتباه ظالم..!
كل الوثائق أمامك تحقق منها وأعد تفحصها من فضلك ولا تتهمني من جديد بما ليس من شيمي!!
- وما أدراني أنا وهذه الوثائق؟ أنتم العرب بإمكانكم تزوير كل شيء؟ تعرفون بالكذب والحمية الفارغة ..!
والإرهاب الدولي العابر للحدود،، أنتم استغلايون إلى أقصى الحدود، تأكلون بعضكم البعض وتقدمون لنا قرابينكم من بني جلدتكم كل مرة من أجل أن نرضا عنكم وحكوماتكم..!
فلا ثقة فيكم أبدا ونحن ندرك هذا الأمر جيداً..
ولأننا متأكدون من أنك الشخص المطلوب، فـ بالاضافة إلى مواصفاتك الشخصية المطابقة لما لدينا، فإن المعلومات التي وصلتنا مطابقة أيضاً لموعد رحلتك واسمك الشخصي،
قلت له بعد لحظة هدوء أو محاولة اصطناعها،،
- يا سيدي الفاضل،، ربما وقعتم في سوء فهم عميق ، أو خطأ في التقدير فهناك عدة أشخاص قد يحملون الاسم نفسه..!
قاطعني بثقة وقال:
-كن متيقنا بأن هامش الخطأ في قضيتك يوازي لدينا 00,00% ،ونتوفر على الدليل القاطع والذي سنواجهك به، فـ هناك شهودا أساسيون ذوو قرابة منك وقد اعترفوا باسمك وكل ما يتعلق بك وقد تضمنته محاضر التحقيق الأولية التي طالعتها بنفسي ،،
- من هؤلاء ..! ومن أورد اسمي على لسانه واتهمني ظلما..!!
قال من دون تردد..
- أخوك عمران وزوجته قد أطلعانا على تفاصيل رحلتك وبأن هناك شخصا خطيرا قادما على متنها إلى باريس العاصمة بهدف التخطيط للقيام بعمل تخريبي ضد السفارة الإسرائيلية بفرنسا، وبأنك تابع لجناح حماس المتطرف،،
هذا بالإضافة إلى كونك خبيرا في مجال الأنظمة والاتصالات الحاسوبية، وهو ما سيسهل مهمتك بكل دقة في تنفيذ عملك الإجرامي وبدون أي شبوهات تذكر في هذا الأمر الذي تعتبره تضامنا مع غزة،
فهل أنت الآن لازلت قادرا على الاستمرار في المراوغة و انكار ما نسب إليك من اتهامات موثقة لن تستطيع مواجهتها ؟
هنا فقط بقيت جامدا متسمرا في مكاني لا أنبس بكلمة،
ومن هول الصدمة القوية لم أعد قادرا حتى على التفكير ولا محاولة تخيل الأمر بعظمة ما يحصل،
ثم تبادرت إلى ذهني تساؤلات عديدة ولعل محورها نفسي أولا ، أما عمران فلا أدري أي نفق أدخلني إليه ، وكيف استطاع اتهامي ؟ هل أرغموه على تلفيق تهم جاهزة ضد كل من يتضامن مع غزة وفلسطين الأبية!
ومتى كان فكر المقاومة جريمة ؟ أليس من حق من سلبت منهم أرضهم أن يناضلوا من أجل تحريرها طال الزمن أم قصر؟
هل يريدونني كبش فداء يزيفون من خلاله وقائع جرائم الإحتلال، ومحاولة التسويق بأنها خرقة مظلومة !
أنا لا أتخيل نفسي أقتل نملة تدب بجانبي فـ ما بالك بأن أرتكب أي حماقة مضحكة لا تمثلي وقيمي..!
بل هم من يرتكبون المجازر تلو الأخرى،ويقتلون الأطفال والنساء، ويحاولون وأد الحياة عن شعب ذنبه الوحيد أنه قال كلمة "لا" للاحتلال وآلـته الوحشية ،،
كيف أقنع نفسي أن بلدانا تدعي الحرية والإنسانية قد أصبحت ورقة في يد من يهيمنون على العالم ويديرونه إلى وجهة مظلمة أكثر سوداوية ؟
وكيف لي أن أقنع أحفادي بأن مشاهد الدم والدمار لم تعد تحرك ساكنا في ضمير البشرية ، فلا أحد منهم قال كفى ،وهم من يستهدفون القضاء على فلسطين بصورة أكثر بشاعة على مرآى ومسمع من كل العالم .
ثم عدت إلى نفسي مرة أخرى محاولا أن أُلملم شتاتي لأستوعب الوضع الذي وُجدت فيه ولا أحسد عليه،،
وفي غمرة هذا الشرود والصمت القاتل طلبت من حامل التهم ورجل الاستنطاق طلبا أخيرا:
- من فضلك لو تستطيع أن تحضر لي حقيبتي ، ولا تخف لن أفجر المكان، هو فقط موعد تناول دوائي ، وكذلك موعدا لـ كأس الشاي الخاص بي والذي قد كنت حضرته قبل إقلاع الطائرة ووضعته في غَلاَّية واحتفظت به في التُّرْمُس الذي يحافظ عليه ساخنا،،
لمحت منه دهشة موسومة بابتسامة حذرة ثم أومأ إلى موظف الرصيف بأن ينفذ طلبي على مضض ويحضر إلي ما طلبته،،
عانقت حقيبتي التي بها رائحة الوطن وكأنها غرفة أحلامي وشغفي، تناولت دوائي، ثم أشحت الغطاء عن علبة الحلوى التي أعدتها أمي خصيصا بمناسبة عقيقة ابنها البكر عمران،، لكن شاء الله أن تكون عقيقة من نوع آخر وأن توزع قطعها على ضيوف من نوع آخر ، وكم تبدت دهشتهم ومعها حجم استغرابهم من الأمر؛ بل إن مذاق حلوى "كعب غزال" قد سلب عقولهم ، أما قطع "حلوى غريبة الهشيشة" فقد رق معها قلبهم اتجاهي، ولمحت على محياهم دهشة عجيبة ،وكأنهم يتساءلون ويستفهمون ؛ أي رجل غريب هذا ! وهل تصدر هذه الأفعال من شخص متهم بالارهاب ومحاولة إحداث تخريب ..!
وقد زادت حيرتهم أكثر بعد أن وزعت عليهم كؤوس الشاي لذيذة المذاق،،
أحسست بأن هذا الشاي قد اغترب معي هو الآخر في هذه الرقعة والغرفة من المطار
لكنه حافظ على نكهته ومذاقه ولم يخيب ظني وشغفهم به،
حينها فقط نطق الرجل المُستنطِق، وقال لي بكل لباقة،،
شكرا على قطع الحلوى والشاي ، قد أكرمتها ونحن لم نقدم إليك إلا وجبة من الأسئلة والاستنطاق منذ أن وطأت قدميك أرض بلدنا ،
أول مرة أجد نفسي مع هذا الموقف من متهم بجرائم ثقيلة ويصدر منه هذا الفعل المقترن بكرم لم اعهده أبدا في شخص مثلك عكس كل ما يروجونه ويسوقونه عن بلدانكم وتعاملكم مع الأجانب،،
ابتسمت له ورددت عليه بأحسن منها وقلت له بكل ثقة:
- سيدي هذه أخلاق ديننا الحنيف ، وقد حثنا على الكرم والجود بما نملك حتى وإن لم أكن أملك غير كسرة خبز لاقتسمتها معكم بكل حب، وديننا كذلك يوصينا بحسن التعامل حين نحل ضيوفا على مكان ما، وأنا ضيفكم وكيف لي أن أتسبب في أذيتكم ؟ وربنا سبحانه كرم الإنسان وحرم قتل النفس والاثم والعدوان والظلم،
وأنا على أخلاق ديني وسجيتي حيث أكون ، فما أحبه لنفسي وبلدي أحبه كذلك وأرتضيه للغير و باقي البلدان لأن الإنسانية الحقيقية هي من تجمعنا وليست تصرفات من يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد كل لحظة في همجية لم يشهد لها التاريخ مثيلا ..!
فالأولى بكم أن تعيدوا توجيه الإتهام إلى المجرم الحقيقي الذي طغى وتجبر،،
المجرم الذي خرق كل المواثيق الدولية ونقض كل الاتفاقات والعهود..!
وأنا أنظر إلى الرجل المُستنطِق لمحت فيه إنصاتا وتأملا مهيبا،
وكأنه يراجع نفسه و يسترجع كل محاضر التحقيق والتهم التي وجهوها إلي،،
ثم ما لبث أن طلب مني أن أمده ببعض قطع حلوى " الفقاس"
وقد كنت كريما معك فأعطيته نصف ما تبقى بالعلبة،،
وبعد أن أخذها استخرج جواز سفري من وثائقي المحجوزة لديه وقال لي باسما ،،
- ياا عامر .. عد إلى بلدك من أول رحلة ..
ولا تنس أن ترسل إلي وصفة هذه الحلوى النادرة..!
،،
انتهت،،