البيت الكبير
نشأت فى بيت كبير له حديقة غناء وبعض الأشجار - نحن ستة أولاد وثلاثة بنات وأبى وأمى يمتلأ البيت بالمرح واللعب والضحك ورغم كثرتنا لم نتشاجر فى يوم مع بعضنا البعض
- والدى رجل جاد إلا أن قلبه مثل قلب طفل عندما يضحك تنفرج كل أساريره بالبهجة وأمى حنونة وهى من أصل ريفى لذلك كانت تزرع فى الحديقة بعض الخضروات جرجير وبقدونس وملوخية وبامية
- يا أمى الناس تزرع الورد فى الحدائق - أسكت يا ولد أنت لا تعرف شيئ
- يأتى إلينا الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناؤهم -أمام البيت شجرة كبيرة ذات أفرع كثيفة يا نعة وزهورها حمراء كاسية كنا نتسلقها ونختفى بين أغصانها الكثيفة وأوراقها اليانعة وكأنها تحتضننا
- لم يكن قد ظهر التليفزيون وكان لدينا راديو كبير يعمل بالكهرباء وموضوع فوق رف خشبى وتراه شامخا" كأنه أبو الهول عندما ينطق
- لكننا نلتف حول أبى وهو يحكى لنا الحواديت وكأنها حواديت ألف ليلة وليلة
– كل أسبوع تحضر العائلة الكبيرة من أعمام وأخوال وعمات وخالات وأبناؤهم وأبى فى غاية الكرم فى إستقبالهم ويوضع الطعام والمشروبات والحلويات ونلعب سويا" مع الأبناء وكأننا فى ملاعب أو وسط بساتين
وأبى وأمى سعداء بهذه اللمة وهذا الونس
-وتمضى الأيام سعيدة – ثم يمرض أخى محمد ويلزم الفراش ولم يطول مرضه ثم يموت ويسود الحزن فى البيت السعيد وبعد فترة بسيطة يمرض أخى محمود ويقلق أبى أرى الدموع فى عينيه متحجرة لكن محمود يعاجله الموت
- ويكتسى البيت المرح السعيد بالحزن ثم يمرض أخى ربيع ويعاجله الموت وكأن الناس قد حسدتنا على اللمة والفرحة
-إنقلب البيت إلى حزن شديد وأمى المكلومة تنهمر الدموع من عينيها كمدا" تواريه عن الجيران - وباقى الأخوة ينتظرون الموت كسابقيهم - والبيت الذى كان يعج بالضجيج أصبح يسوده الهمس والسكون
لم نعد نلعب كما كنا - لكن الحياة تمضى والإخوة والأخوات يكبرون وقد تخرجوا من الجامعات وتزوجت البنات - ويأتوا إلى البيت بأطفالهم
- لكن أبى لم يعد يضحك إنه فقط يتبسم بعد أن فقد القدرة على الحركة وأصابه المرض فأصبح طريح الفراش وكذلك أمى التى لم تعد تزرع الخضروات فى الحديقة
- ومات الأب وبعده بسنتين ماتت الأم وكأن أعمدة البيت قد أصابها العطب – وتدور عجلة الأيام ويتزوج الإخوة وتكون لهم بيوت مستقلة وسافر منهم من سافر بحثا" وراء الرزق
- كنا نلتقى سويا" مرة كل شهر داخل البيت الكبير ثم أصبحنا نلتقى فى المناسبات -ثم تم غلق البيت الكبير – وتمر السنين والأعوام
- وهفنى الشوق لزيارة منزلنا القديم الذى ولدت فيه وإحتضننا وكان يمرح معنا
- فذهبت إليه والشوق يعصرننى - فوجدت الشجرة التى كانت قائمة أمام البيت وقد جفت أغصانها وسقطت أوراقها تقف جرداء مكسرة الأغصان
- دخلت البيت فوجدت ألوان حوائطه قد بهتت وشاخت وتشققت - والحديقة جرداء تعشش فيها الغربان - وقف شعر رأسى عندما سمعت نعيق البوم
- جلست أمام الرف الموضوع عليه الراديو القديم وقد كساه التراب - هل هذا بيتنا أم أننى قد أخطأت وضللت العنوان
- وسمعت البيت يبكى كطفل تاه عن أمه – لماذا تركتونى وحيدا" إننى أحتضر فى كل يوم ولا أجد من يواسينى
فأدركت أن للدور روح كما للناس أرواح
انتهت
.