" طـيـف عــاقـصة "
،،
تكاد الشمس تميل إلى المغيب ،والسماء ترسل أولى ظلماتها على استحياء ،
وهو لم يجد عملا جديداً بعد ،
لقد جاب جميع المصانع والأوراش بالمدينة الصناعية، لكن بدون جدوى تذكر، هذه وضعيته غالبا عندما تتأزم أحواله ولا يبتسم له الحظ كما يحلو له أن يصفه،،
حتى زوجته " عاقصة" لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب ،،
لا يهمها أبدا من أين يأتي "علال" بالمال ولا نوع العمل، ما يهمها أكثر هو ما يقدمه
لها وما يتقاضاه ، سطوتها لا تجعله ينبس ببنت شفة، فلا يمكنه الاعتراض
أو التعقيب على قراراتها لأنه يدرك تمام الإدراك بأنه سار خاتما بإصبعها
ولا حال يعيد أيامه الخوالي حين كان السيد الآمر الناهي.
ورغم خنوعه التام لـ " عاقصة" إلا أنها وبالرغم من ذلك لا تترك له فرصة تمر دون
أن تسمعه بعضا من حماقاتها وتهديداتها الاعتيادية، فلا تمر فترة إلا وتنسج أمرا
من حياكة حبال خيالها الشيطانية، تأتيها بعض الأفكار الهدامة دكا،
فـ تجعله يلعن اليوم الذي وجد فيه واقتسمه معها بين جدران ذاك البيت المتلاشي المتصدع،
هذا الأخير يجزم بعض من المتندرين بأنها سبب تصدعه بفعل صياحها الجامح الذي تعدى مداه !
يستسلم "علال" مكرها لـ سماع أسطوانتها المشروخة كل مرة حين تدعي باطلا بأن والدته التي تقاسمها البيت بأنها قد أزعجتها أو تسببت في فزع بناتها أو حتى سرقتها لطعامهم وأكله عنوة، لكنه يحاول عبثا في كل مرة أن يدافع عن أمه المسكينة التي لا تقوى على الحراك وقل نظرها ،بل يعلم علم اليقين كذبها وصدق والدته براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، فلا تمهله "عاقصة" حتى أن ينهي دفاعه الهادئ المستسلم حتى تنفجر في وجهه بشتى أنواع السباب والصراخ حتى يكاد كل من بالجوار ينتبه لصياحها ،لكنهم يتذكرون أنه صوت عاقصة الحي التي يلقبونها بالعقرب لسلاطة لسانها وحِدته أمام زوجها علال المغلوب على أمره،،
وها هو المسكين الآن عائد في طريقه لا يلو على شيء في غمرة كل ما يتذكره وما يعتريه، بعد أن تدبر أمره أخيرا حين اقترض مبلغا من المال مرة أخرى من صديق طفولته وصباه "هارون"
يعلم مع قرارة نفسه أن مال الدنيا كله لن يشبع جشع "عاقصة" ولن يسلم من معركة أخرى يخوضها أعزلا بلا سلاح معها ،
وكم كان يحلم و يتمنى أن يكون يوما مثل بقية أقرانه ، وكم حلم يوما أن يكون بالخصوص مثل صديقه "هارون"
الذي سهل الله عليه بعيش حياة سعيدة بعد أن وهبه الله زوجة صالحة سمعتها تسبقها والكل يذكرها ويعرفها بـ بنت الخير في الحي " زينب بنت الحاج الصافي" يطلقون عليها اسم "لالة الصافية" لطيبها وصفاء سريرها وطريقة تعاملها مع الناس ، زوجها هارون يحمد الله كل يوم على دعوات الخير التي تصله بسببها وكم تمنى أن ينعم صديقه علال بزوجة مثلها تريحه مما يعانيه من ويلات معها صباح مساء من شتى ألوان المعاناة التي تجعل الحياة تلتحف السواد في عيون من يراها حين يسأل علال،،
ولن تحتاج سؤاله أبدأ،
يكفيك أن ترى حاله وملابسه الرثة المتهالكة التي اختفت ألوانها كليا ،
ورأسه الأشعث الذي تظن لوهله أنه نسيه سنينا بلا تفقد ! وكأن له ظغينة سابقة مع حلاق الحي حين ترك لحيته وشاربه بلا تشذيب ولا تأنق، فلا ترى من وجهه إلا تلك العين الذابلة رغم بريقها القديم الآسر،،
حتى حذاءه قد يخيل إليك أنه لبسه خطأ بلا جوارب فصلية،
تطل منه أصابعه المتيبسة خجلا عارية يشفق عليها التراب من خيفته ولا يستره،،
حين تراه من بعيد قد ترثي لحاله حتى لو لم تكن لـ تعرفه ،وما بالك لو قُصت عليك بعض من خبريات من فصول حياته البئيسة التي عاشها ويعيشها في آخر الزقاق التلي بلا ملامح.
،، ،، ،،
الآن فقط يراوده حنين الأمومة ويتذكر بحسرة بالغة تلك الأيام الخوالي
و التي لن تعود مع رحيل الطفولة وريعان الشباب معها ،
حين كان يجمعهم ويحتويهم عطف الأم وحنانها مع أخوته الصغار بعد رحيل الأب
إلى مثواه الأخير بعد مرض عضال ،
كانت المسكينة ورغم حجم الفاقة تضحي بالغالي والنفيس من أجلهم ورعايتهم حرصا على سعادتهم وسد فجوة غياب الأب ، كانت تسهر على راحتهم ولا تبخل بشيء
فلا يغمض لها جفن إلا بعد نظرة اطمئنان على سلامتهم جميعاً ،
ويتذكر أكثر ذاك اليوم الذي اختارت فيه أن تعيش معه دونا عن غيره من باقي أخوته بعد أن تخلى عنها الزمن مجازا، يعلم جيداً أنها كانت تعتبره الابن البار والرجل
الذي يستطيع أن يتولى مسؤولية دور الأب بعد أن أنهكها المرض والتعب،،
لكنه الآن يلوم حظه التعس مرة أخرى ويطرح عشرات الأسئلة التي تتراقص
و تزن في مخيلته التي لم تعد تحتمل أكثر.
يلوم نفسه على استمرار زواجه ، وعلى عدم قول كلمة كفى ولو لـ مرة واحدة،،
- كفى من هذا العبث .. !!
- استيقظ يا رجل ! استيقظ يا رجل!!
هكذا يكلم نفسه ويتذكر هذه اللازمة كل حين،
كيف سمح لـ عاقصة أن تنفرد بوالدته ، كيف تركها وحيدة معرضة للجوع والتهميش والتنكيل وسط بركان الشر بعينه التي تكره حتى فكرة أن يقاسمها جني بيتها دون سواها،
الآن فقط يدرك الجحيم الذي ورط فيه وإليه أمه من دون شعور ،
بل أصبح يخشى حتى على بناته من شررها وتطايره.
يندم أشد الندم على لحظات ضعفه وانكساره وقلة حيلته،
تتسلل إليه الهواجس تلو الأخرى ويكان الحل الصادم يقترب شيئاً فشيئا منه،
هل يفعلها ؟؟
يسأل نفسه مرة تلو الأخرى وكأنه جن وتاه،،
لم ينتظر طويلا لـ يجد نفسه أمام باب البيت بلمح البصر،
لا يتذكر حتى كيف طوى تلك المسافة ووصل بتلك السرعة!
ثم يجد نفسه مرة أخرى أمام غرفة زوجته !
ثم يرى بين يديه عكاز والدته !
من أين أتى!
لا يتذكر شيئا غير لحظة خرت فيها عاقصة جثة هامدة،
وأعينها شاخصة إليه وكأنها تسأل نفسها في دهشة !
أي "علال" هذا الذي انبعث من رماده وحشا كاسرا لا يرحم؟!
كانت آخر كلماته وهم يقتادونه :
سامحيني .. سامحيني .. أمي،،
،،
انتهت ،،