ارتديتُ معطفي الشتوي في تلك الليلة الماطرة، وتلحفتُ السّماء، لا أدري لي وجهةً محددة..
كانت جميعُ الطرق فارغةً من السيارات، تكاد الظلمة تبتلع ضوضاء الصباح.
فرحتُ أدندن بيني وبين نفسي بضع أغانً حُفِرت في ذاكرتي منذ عهدٍ قديمٍ..
أحسستُ بخفة تدريجية وأنا أمشي في طرقٍ فارغةٍ من البشر، ورحت أبحثُ في موبايلي عن أغانٍ انتهت صلاحيتها عندي منذ زمن طويل.
ضغطتُ على أجمل غنوة كانت رفيقتي في صباحات ما، لكني لم أنسجم معها، بحثت من جديد، فكانت كل محاولاتي فاشلة.
لم أنسجم مع أي لحن، وكدتُ أعترف بعجزي الثلاثي:
لا أعرف أين سأتجه ..
لا أجد شيئا تطرب له ذائقة أذناي
لا أريد رفيقا حتى لا أتحدث!
لمحتُ في جانب الطريق بضع متشردين يهربون من المطر، يرعبهم البلل تحته، فتعجبت من تناقضات الحياة.. نبحث نحن عن البلل، ويبحثون هم عما يغطي رؤوسهم..
كم هي غريبة هذه الحياة، وكم هو أناني هذا الإنسان، إنه لا يبحث سوى عما يلائمه، ويظل طيلة العمر يشتكي مما لا يملك!
عدتُ أدراجي، محاولة التمثيل أن جولتي الليلة كانت ناجحة. توجهتُ لمنزلي قبل توقف المطر، فقد خرجت خصيصا حتى أتبلل.
عدتُ لمنزلي وكل الهواجس تقفز في ذاكرتي، لم أنجح في الحصول على هدنة منها طوال سنوات بعيدة، لازالت شوارع مخي متقدة، وصخَبها لا يعلو عليه آخر..
في الصباح الباكر قررتُ الموافقة على رحلة بعيدة عن المدينة، كان كل شيء جاهزًا طعامنا وشرابنا والمياه المنعشة، وحتى الجو قد نفض عبوسه، ورسم على السّماء أساريره، فرحنا نتباهى به كردٍ للجميل.
كانت الرحلة بالنسبة للجميع ممتعة، والجميع سعيد بها، وحدي الممثلة المخادعة بينهم، أتستر بابتسمتي، أحاول أن أنجو من غطرسة الحزن داخلي، ومن جحود الآلام المميتة التي تذوقتها منذ عهود..
(أنا التي اختزلت كل الفنون الدفاعية لتخطي الألم ولم تنجح، أنا الساكنة في أصقاع عالم محايد لا يصله أحد.. أنا رفيقة الأساطير البائدة، المتخلفة عن الحاضر بعهود طويلة..)
كان الجميع متفاعل معي، فأنا لا أترك أحدا بدون احتواء.. ولو بقيت أفقرهم اهتماما، ما منعت اهتمامي عن أحد.
ونحن في طريق العودة وصوت المذياع يشذو في السيارة، غفوتُ قليلا محاوِلةً الإستسلام للهدوء داخلي، أحسستُ شيئًا داخل صدري يتحرك، كأنه الإحساس بالمتعة أو أنه شعور بالسعادة.. كان يحاول الخروح لعالمي ولم يفلح.. كان كمن وقع في بئر سحيق، يريد النجاة ولا يستطيع.. وظل يحاول ويحاول الخروج، كأن الباب الذي أُقفِل عليه قد أوقع مفاتيحه.. ظننتني بلحظة سأنجح في الإحساس ببضع سعادة، أو بفتات استمتاع.. كانت أحاسيسي تتدافع نحو الباب حتى كدتُ أسمع أصواتها، لكنها فشلت!
رجعت لسجنها الأبدي.
وأفقتُ أنا من غفوتي أعيد التمثيل أني بخير.
انتهت.