ﻋلى أنغام أهازيج النساء و زغاريدهن، كانت تقيم طقوس نحيبها في صمت و هي قابعة بإحدى أركان غرفتها الموحشة القاحلة، جالسة على اﻷرض تضم ساقيها بذراعيها النحيفتين، تشدهما بكل قوة نحو بطنها العقيم، محاولة إسكات وجع و جوع الدمار الذي يعتصر و ينهش أحشاءها من الداخل. خارج ذاك الباب و خلف تلك الجدران، كان الكل يشدو و يترنح على لحن عزلها عن عرش ستعتليه هذه الليلة روح جديدة، ستطؤ أرض المنزل أقدام غريبة، ستشاركها المكان نفسه و إيقاع الزمان الثقيل نفسه، كما ستتقاسم و إياها الزوج و الهواء النجس نفسه. قبل عامين، و في نفس الفصل الحار من السنة، أو ربما نفس اليوم و نفس الليلة منها، كان البيت يعج و يصدح بصياح و ضحكات نفس المدعوين لهذه الليلة، هم نفسهم من توجوها العروس اﻷولى و الوحيدة حينها، هم من أطربوها و شنفوا سمعها بأغانيهم المرحبة بقدومها و المتغزلة في جمالها و حسنها تلك الليلة، و هم نفسهم من يجلدونها و يقصفونها دون رحمة بألحانهم و أغانيهم المادحة لغيرها من النساء هذه الليلة. بعد أن استجمعت بعضا من قواها الخائرة و المتناثرة بين ثنايا سنتين من الذكريات الطويلة القصيرة، السعيدة و اﻷكثر منها حزينة، نهضت من مكانها و وقفت خلف الباب الذي يفصل بين أجواء الموت البطيء خاصتها، و تفاصيل الحياة الجديدة خاصتهم، ثم صنعت لنفسها من الشق الكامن بين مصراعي الباب شاشة مصغرة ترقب من خلالها أجواء تشييع جثمانها و هي على قيد الحياة حية ﻻ ترزق. ﺑﺟانب الفريسة الجديدة، كان جالسا يستأسد و يستعرض أمام الحضور وهم فحولة و رجولة لم يكن ليليق بها المضي قدما في هذه الدنيا دون خلف يحمل من بعده الجهل قبل اﻻسم، يرث عنه شوائب عقود متوارثة ستحصد معها ألم و قهر أجيال قادمة. غبطته كانت توشي بالكثير و ﻻ تفصح إﻻ عن القليل، كل تصرفاته و حركاته المستيقظة كانت بجرعة زائدة عن المتوقع، لم يبد عليه أبدا أن وازع هذه الزيجة المفتعلة هو غرض اضطراري كما جاء على لسانه مسبقا. اﻷمر الجلي و المحتوم هو أن الفكرة في اﻷصل ما هي إﻻ نية مبيتة بين أساريره، و ما غاية النسل إﻻ عذر أهدته إياه اﻷقدار كحجة يقتفيها سبيلا و طريقا معبدة يسلكها بعينين مغمضتين صوب ما يربض بداخله. لم تستطع استكمال المشهد ﻵخر رمق من صبرها، فاندفعت و خرجت حافية القدمين تخترق حشد الناس، تدهس شوك ورد أفراحهم فتحصد اﻷلم و ﻻ شيء غير اﻷلم. مشت مهرولة نحو الترعة المفضية إلى الوادي، أسرعت في خطاها مخافة أن تلحقها خطوات أخرى تحول بينها و بين رغبتها الجامحة في وضع حد لهذه المعاناة و إسكات تلك اﻷصوات التي تفتك بدماغها ليل نهار، أرادت أن تسلم جسدها و ألمها للتيار الجارف يفعل بهما ما يشاء، و يحملهما حيثما يشاء. لكن سرعان ما خف إيقاع خطواتها و باء إلى الفشل حينما أيقنت أنه لم يقتف أثرها أحد و لم ينتبه لخروجها الثائر أحد، ﺗﻣﺎﻣﺎ مثلما لم ينتبه أحد لغيابها أو حضورها يوما . جلست على صخرة بالحافة و أسندت جسمها المتهالك لجدع شجرة ضخمة لصيقة ﺑﺎﻟصخرة، بدأت تقلب فكرة اﻻنتحار برأسها ذات اليمين و ذات الشمال، ﻓلم تجد عنها بدا أو محيدا، انتفضت من مكانها عازمة، و هي ترمي خطوتها اﻷخيرة قبل أن تهوي بثقل جسدها ﻟيتلقفه الفراغ، أحست بشيء يشد عباءتها و يجذبها إلى الخلف، فتعثرت و سقطت أرضا حيث لم يعد يفصلها عن الموت سوى شبرين، التفتت خلفها تبحث عن الشيء الذي عاق سبيلها صوب النجاة، فوجدت جناح عباءتها محشورا بين الصخرة و جدع الشجرة، حاولت إطﻼق ﺳراحه لكنه زاد تشابكا و أبى اﻻفلات، أمسكت بحجر و بدأت تحاول تمزيقه موجهة ضربات سريعة و عبثية لطرف الثوب العالق، و للأسف لم تجن بمحاوﻻتها تلك غير اﻷلم المضاعف بعد أن زاغت إحدى التسديدات عن مقصدها، فأصابت يدها الممسكة بالثوب فوق الصخرة، لتخور حينها كل عزائمها و تجهش في البكاء و هي ساجدة رأسها منكس إلى اﻷرض و أظافرها تحفر التراب فتسقيه دما و ألما. عائدة اﻵن إلى سجنها تجر ذيل الخيبة خلفها بعد أن أيقنت أن اللعنة ثابتة و ﻻ مجال للفرار منها، فحتى الموت كانت فاشلة في العبور نحوه. تمنت أن تكون اﻻحتفاﻻت قد انتهت و أﻻ يلاحظ عودتها أحد، ﻻسيما و أنها في حالة تدل على هيئة العائد من الحرب بقدميها المكلومتين الحافيتين و ثيابها الممزقة. بينما كانت تنسج أفكارا و أعذارا تستنجد بها عند الضرورة، لمحت من بعيد ضوء متراقصا و كثيفا، ينبعث من جهة المنزل، كما أن الرائحة المزعجة التي كانت تؤثث المكان أثارت فضولها و ﺟﻌﻠتها توقظ مشيتها المتثائبة، و شيئا فشيئا بدأت الصورة تتضح، دخان متصاعد و لهب يلتهم المنزل بمن فيه، صياح الناس بالداخل صار اﻵن أقوى و مختلفا عما تركته عليه عند خروجها، هم اﻵن ينتحبون و يصارعون الموت بعد أن حاصرهم من كل الجهات، فالحريق قد شب من الخارج و أحاط بجنبات المنزل فمنع الكل من الفرار. لتكون رائحة الجلود و اﻷوبار المحترقة مسك الختام لكل طقوس هذه الليلة. |