كان يومه يوما حافلا باسترجاع ذكرياته مع صديق أيام الشباب، تذاكرا كثيرا ووقفا عند محطات متعددة
لم يكن مجئ هذا الصديق عنده صدفة ولكنه جاء في زيارته بعد غيبة طويلة عن الوطن ، قضى النهار
عنده ، لكن الوقت لا يرحم والظروف حتمت عليه أن يذهب بعد أن ودع صديقه عند مدخل البيت عاد إلى غرفته
وهو شارد الذهن ، ما زال تفكيره مرتبطا باللحظات التي قضاها مع زميله ومع عبق ذكريات الماضي البعيد تمدد
بكسل على الفراش وامتدت يده إلى جيبه حيث أخرج علبة سجائره ، التقطت يده سيجارة وضعها بين شفتيه ،
أشعلها وجذب نفسا عميقا ، تصاعد الدخان من فمه راسما خطوطا متشابكة هذه الخطوط التي ساعدته
على استعادة ذاكرته أول سيجارة شربها ... كانت أول سيجارة سرقها من علبة سجائر والده يعود وقتها لمدة طويلة
قام بتدخينها خفية على سطح المنزل ، تكررت عملية سرقة السجائر كثيرا حتى أصبحت عادة متأصلة
في تفكيره ، بالنسبة إليه أصبح السطح المكان الأنسب لشرب السجارة المسروقة ، تفقده والده ولاحظ
غيابه سأل أمه عنه لكنه لم يتلق منها جوابا مقنعا وشافيا ، فتح الباب وكان كعادته مرتبكا كلما عاد من السطح ،
كان يعرف أن آثار شرب سيجارة يبقى للحظات هرع بخوف كبير إلى الداخل ، أثناء المرور اشتم أبوه رائحة الدخان ،
نادى عليه وهوى على وجهه بصفعة شديدة .
أسرع في ولوج غرفته وأغلق عليه الباب . رغم هذا الدرس القاسي الذي تلقاه لم
يحرم نفسه من السيجارة ، لم يعد يدخنها على السطح وجد المجال الأرحب ،
خارج البيت وبعيدا عن السطح أصبح يدخن مع زملائه في الشارع يتظاهرا أمامهم بالرجولة .
يجلس في غرفته ممددا على فراشه وهو شارد الذهن والسعال يكاد يخنقه .الآن يستطيع شراء سيجارة ،
وباستطاعته أيضا أن يفعل ما يريد لكنه لا يستطيع أن يوقف هذا السعال الذي يعتصر صدره ،
كانت عيناه محمرتان، وأصابعه ترتعش وهو يحاول أن يمدها باتجاه كوب الماء ،وكأن شيئا مخيف يقترب منه ،
شئ يشبه أصابع الموت الخفية ... فجأة توقف السعال فنهض من فراشه حاملا بيده علبة السجائر ،
فتح باب الشقة ونادى بصوت عال : أحمد ... أحمد ...
لكن بواب العمارة لم يجبه ، ولما حاول مناداته مرة أخرىبدأ يطفو بداخله هاتف آخر ، لماذا يبحث عنه ؟
هل نادى عليه كي يقدم له موتا بطيئا ؟ برز له صوت في أعماق مخيلته يقول له : حرام ... حرام .
أقفل باب الشقة ثم عاد إلى الغرفة ، جلس على الأريكة للحظات ثم أخرج علبة السجائره ولم يشعر إلا وهو يمزق علبة
السجائر تلو ألقى بها على الأرض وكأنه ينتقم منها في صمت ، كان يدوسها بلا أسف ...
وكأنه يودعها إلى الأبد .
بقلمي .