أحب الحياة البيتية في إجازة الأسبوع. أتناول الغلاية وأسكب الماء المغلي في الكوب. ثم أمضي إلى غرفتي حاملاً كوب الشاي الأخضر. أرتشف الشراب الساخن المهدئ للأعصاب وأستمع إلى موسيقى بحيرة البجع. وموسيقات أخريات. في غضون ذلك، عيناي تشرعان، حباً وإعجاباً، بالتأمل في مكتبتي الصغيرة، يوجد فيها: روايات لكتاب أفذاذ، وقصص شعبية عالمية. هذا كله عامل مهم في صقل إنسانيتي ورغبتي بالاستمرار في الحياة. ثمة رسومات أعجوبية، لها أُطر وزجاج يغلفها، معلقة على الجدار:
رسمة لعصفور بقلم رصاص،
ورسمة غير ملونة لكن الحياة تنبثق منها لصبي يغزو بقاربه بركة المستنقع، مستكشفاً ومنقباً، وحول قاربه تتموج المياه على شكل موجات صغيرة, في منتصف المشهد تنتشر الأشجار. وتتكاثف الطحالب الإسبانية على أغصانها.
وأخيراً، رسمة لطبق فُلْفُل وبصل بالألوان الخشبية
كل الرسومات منبثقة من مخيلة فتاة عبقرية. أشكرها وأقدرها. قالت لي تلك الفتاة ذات مرة: لقد جُبِلتُ، منذ الطفولة، على هذا الطبع، وهو تعويض اللا موجود بالفن والإبداع. فعلى سبيل المثال، عندما أشعر بعاطفة الجوع إلى شَطِيرَة البورغر، وليس في محفظتي المبلغ اللازم لإشباع هذه الشهوة البريئة، أشرع في رسم رغيفيّ خبز محشوين بقرص لحم. وأيضاً أرسم مشروباً بارداً تطفو فوقه مكعبات الثلج. كلمات الفتاة كانت بمثابة الصفعة على خدي. من باب الحصافة أقول: بإمكان الإنسان أن يصنع عالماً خاصاً بمشتهياته ورغباته الشخصية من خلال الموهبة التي يتفرد بها. ثمة مساحة بعد في غرفتي، ليتني جلبت خرائط العالم الجغرافية وكسوت الجدار بها.
آه صحيح! لدى منزلي شرفة تقبع في الطابق الثاني. في فوْعَة العِشَاء. أراقب الغادي والرائح. حتى القطط لم تسلم من سهام نظراتي التأملية: أشاهد قطة تنسل من أسفل سيارة صوب نفايات الطعام، ثم تأكل بمتعة دون أن تحزن من الماضي أو تحمل هم المستقبل. في وقت النوم أطفئ نور الغرفة. أحدق في السقف وأرى بعين الخيال أرنباً برياً يلعب فوق السجاد العشبي. يلعب في الأحراش والآجام ويقفز فوق الأسيجة العشبية. وحين يشعر بالجوع يأكل من بستان قريب من قصر أبيض مَرْمَرِي. إنه القصر الذي تعيش فيه سندريلّا. بستان يحوي أشكالاً وألواناً من نباتات وثمار، أتمت نضجها بشكل رائع، متدلية من الأغصان.
ثم أرى أمامي قصراً مهجوراً. يهاب المغامرون الفضوليون من دخوله واستكشافه. يقال إنه قصر يحتوي على غرف كثيرة؛ جميع أبواب الغرف مشرعة غير غرفة: بابها محكم الإغلاق. مفتاح باب الغرفة مدفون في تربة فناء القصر. بعد قليل، ينبثق من حلم يقظتي فأر نرويجي شرساً يدخل باب القصر العمومي ويجتاز ردهته العابقة برائحة العفونة. أتبعه حاملاً ضوء الشمعة. يتسلق درجات السلم الملتوية، ثم يركض في ممرات وأروقة ضيقة. لقد انسل تحت أعقاب باب الغرفة ذاتها. ربما الفأر النرويجي وجد في هذه الغرفة المغلقة، لمدة طويلة، ملاذه الآمن. أتحرق فضولاً لمعرفة ما خلف باب الغرفة الموصد. لكن خيالي مشغول بتتبع شأن هذا الجرذ البني المريع. أتصور أن الجرذ إذا جاع يتسرب خارج الغرفة ثم ينتقل إلى المطبخ ويأكل من الطعام المتعفن والخضراوات المتيبسة النتنة. له مناعة قوية ذلك الفأر!.
أستيقظ ويكون جسدي، جراء تأثير النوم، مخدراً تخديراً لذيذاً. أجد الشمس طالعة وكأنها تقول لي: صباح الخير- الدنيا ربيع والجو بديع.. أغلق كل المواضيع! أغلق! أغلق.
أذهب إلى المقهى. تضاف حبات السكر إلى الفنجان خالقة زوبعة قصيرة النفس. ينصهر العالم بأجمعه حد التلاشي خلال تذوقي بضع رشفات من القهوة الساخنة. أنا غارقٌ في الملذات هذا اليوم. هذا طبيعي جداً؛ فاليوم إجازة نهاية الأسبوع. وقتي ملكٌ لي وحدي. أتصرف بالساعات، كيفما أشاء، دون قلق من سيف الوقت القاطع.
عند الظهيرة أكون راكناً إلى برودة جهاز المكيف. ينبغي عليّ الهروب من وقدة الحر إلى طراوة ولطافة الهواء البارد. في أشهر الصيف، يصبح من المحال حتى على الثديات الصغيرة والطيور التعرض إلى لُهْبَة شمس الهاجرة. فالأرض في بلدي إنما هي صحراء بلقع. ولولا جهود إدارة المحمية ما عاش حيوان أو طير في الجزء البري، والساحلي من البحر، المخصص لها.
***
حاشية: يقال أن الحيتان القاتلة أو حيتان الأوركا دخلت المياه الكويتية. حفظ الله رواد البحر من شر دواب البحر.
الساعة الرابعة إلا ربع، أتناول غدائي: دجاج وأرز وسلطة وقدح لبن.
الأسبوع الماضي، في مثل هذا اليوم، ذهبت مساءً إلى السينما وشاهدت فيلماً لنجمي المفضل. أما مساء هذا اليوم فسوف أتصل بالطبيعة والنقاء.
من موقع فناء بيتي أرفع بصري نحو الأعلى، وأجد الغيوم البيضاء اللطيفة تلبس السماء الزرقاء. قدمايّ تأخذاني إلى الحديقة المُشيدة على الطريقة الإنجليزية. تنتهي الصحراء حيث تبدأ الحديقة: إنها الموطن الزاهر وسط يباس المكان العام. أشجار كثيرة، وعشب طويل يتماوج في رفق فوق رأس المستلقي على الأرض. ونافورة تطفح بالماء والعصافير المغردة تقف على أفنان الأشجار.
أجد هناك طفلة رقيقة عذبة تأكل كعكة الدونات بالكراميل. أبصر نحلة طائرة فوق الورود الهولندية. يد الطفل تحمل حمولة من البالونات المختلفة الألوان. ليس من أيما طفلا على ظهر الحديقة أكثر منه سعادة وأَزْيَد فرحة. وهناك ناشئ يتقهقر ثم يركض ركضة سريعة نحو الكرة، فيركلها عالياً لتتصاعد في الفضاء الأزرق. الكرة لا تزال في صعود وكأنها عازمة على الغوص في خاصرة السماء. ثم تسقط على الأرض. أتمشى في الممشى ومن حولي تزين أشجار النخيل المكان. يأخذ الفرح مني مأخذاً يجعلني أبقى في الحديقة لوقتٍ أطول.
دجن السواد السماء، وأضحى لونها يشابه لون أزهار الزنابق السود. هنا أحس أن روحي تخرج مني طواعية سابحة في الفضاء الحي حين أنعم النظر، إنعاماً متطاولا، إلى النجوم، المومضة المرصوفة، وقد سَنا ضوؤها. كنت أقول لأقاربي وأصدقائي في سبيل تبيان الفرق بين النجوم والكواكب: ضوء النجمة مشع ثم منحسر ثم مشع، أما ضوء الكوكب لهو ثابت غير مُتقلِص حتى يبتعد الكوكب عينه، عن مجال رؤية الناظر إليه، إلى فَيْح غير منظور، سابحاً في ملعب الفضاء الشاسع.
بي رغبة عارمة بالحصول على شراب سحري يُبطل مفعول الجاذبية على جسدي لأتدفق عالياً مثل بخار ماء نحو القبة الليلية التي حاشا أن تكون معتمة وهي مزينة بكل خلق الله من أنوار وأضواء. بكلمة موجزة: إنها طفرة سحرية اعترت روحي. تنتهي السهرة إلى هنا. في أمان الله أحبائي القراء.