-*-*- الوعي البيئي وسلوكيات الإنسان -*-*-
بعد المسيرة الطويلة التي قطعتها التربية البيئة ثمة تساؤلات عديدة تطرح نفسها بإلحاح ، ومنها :
- هل أدى الوعي البيئي الى تغيير في السلوكيات ؟
- ولماذا ، رغم زيادة الوعي البيئي في أنحاء العالم ، لم يحدث تقدم ملموس في معالجة قضايا البيئة ؟
السبب ، ببساطة ، هو ان التركيز حتى الآن كان على الجوانب الفنية والمؤسسية والتشريعية للقضايا البيئة ، وتم تجاهل البعد الإنساني ، الذي هو في الواقع محور كل هذه القضايا. ولقد طرحت في الأعوام الماضية تساؤلات أخرى ، مثل :
- هل هناك علاقة بين التدهور البيئي ومنظومات الأخلاق ، والقيم ، والمعتقدات ، التي تحد تصرفات الإنسان ؟
- وما هي الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية التي تؤدي الى تغيرات جذرية في سلوكيات الإنسان وتجعله يتخذ موقفا سلبيا تجاه البيئة ؟
- وكيف يمكن تغيير هذه السلوكيات وجعلها إيجابية وفعالة في حماية البيئة وصون الموارد الطبيعية ؟
للإجابة على هذه التساؤلات لابد من الإشارة الى ان العلماء أجمعوا على ان السلوك الإنساني يتكون من جزئين : جزء متوارث ، واَخر مكتسب يتعلمه الإنسان في المجتمع الذي يعيش فيه.وتلعب العوامل الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية أدوارا رئيسية في تشكيل الجزء المكتسب من سلوك الإنسان. وتختلف هذه العوامل ، وبالتالي السلوك الإنساني ، من حضارة الى أخرى وعلى مر الأزمنة.ومع تطور وتضخم الحياة المادية في العالم اصبح الجزء المكتسب هو المكون الأساسي في سلوك الإنسان وإضمحل الجزء المتوارث بدرجة ملموسة .
وتوضح الدراسات المختلفة أنه في الأزمنة القديمة كان التغيير في مفاهيم ومواقف الإنسان تجاه قضايا البيئة بطيئا .فإنتقلت مفاهيم كثيرة عبر الحضارات المختلفة ، أي تم توارثها.ولكن مع بدء الثورة الصناعية ، وما تبع ذلك من تطور علمي وتكنولوجي سريع ، تغيرت هذه المفاهيم بسرعة أكبر وإضمحلت قيم ومعتقدات كانت راسخة في بعض المجتمعات مئات وألوف السنين.فمثلا كان اليابانيون حتى وقت قريب يعتزون بتقليد ومفهوم قديم متوارث هو " الموتانياي " الذي ينص على ان " كل شيء في العالم هو هبة من الخالق ، ومن ثم ينبغي على الإنسان ان يشعر بالإمتنان له ، وان يحرص على كل شيء ، ويعتبر إضاعة او تبديد أي شيء خطيئة كبرى " . وقد اثر هذا المفهوم على سلوك اليابانيين خلال أزمنة طويلة ، فحرصوا على الإستخدام الأمثل والرشيد للموارد المختلفة. ولكن هذا المفهوم بدأ بالتلاشي مع التطور الصناعي والإزدهار الإقتصادي وبدء محاكاة المجتمع الياباني للمجتمع الغربي في أنماط الإستهلاك وأساليب الحياة.
واليوم ، ثمة إتجاه لتصنيف المفاهيم الإنسانية للبيئة الى نوعين :
- الأول- هو المفهوم التقني المحور Technocentric ، الذي ينادي بأن التقدم هو نتيجة المزيد من العلم والتكنولوجيا ، وأنه لا توجد عقبات لا يمكن التغلب عليها ، وان لكل مشكلة بيئية حلا تكنولوجيا .
- والثاني- هو المفهوم البيئي المحور Ecocentric ، الذي ينادي بان التكنولوجيا الحالية هي خطر داهم على الإنسانية ، وانه لابد من إحداث تغييرات جذرية وإتباع تقنيات أبسط وأكثر توافقا مع البيئة لتحقيق حاجات الإنسان الأساسية والبعد عن الإسراف وتبديد الموارد المختلفة(أي " كل صغير جميل " Small is beautiful).
فاي من المفهومين يفضله الإنسان ؟
الإنسان بطبيعته أناني ، مولع بالإمتلاك ، وقصير النظر. لذا فانه بمجرد حصوله على المعرفة لزيادة رغباته المادية ، لا يتوانى عن إستخدام هذه المعرفة الى ابعد حد ممكن وبدون النظر الى الأضرار التي يمكن ان يحدثها للأجيال القادمة.فالإنسان إذا يميل بطبيعته الى المفهوم التقني المحور.وهذا المفهوم ، الذي اصبح سائدا ي مختلف دول العالم ، خاصة ي الدول الرأسمالية ، لأن جذوره متأصلة فيها.ويخشى البعض من تضخم هذا المفهوم ويحذر من ان مردوده في المستقبل القريب سيكون سلبيا وستكون عواقبه وخيمة على الأجيال القادمة.
هكذا ، فإزدياد الوعي بقضايا البيئة لا عني بالضرورة حدوث تغيرات إيجابية في سلوكيات الأفراد.ومع تفشي حالة اللامبالاة في شرائح المجتمع المختلفة ، أصبح الشعور السائد هو ترك المشاكلالبيئة للأجهزة الحكومية للتصرف فيها.بالإضافة الى ذلك ، هناك إتجاه واضح ، خاصة في دول نامية كثيرة ، لعدم تعاون الجمهور.فمثلا قد تبذل البلديات في بعض المدن جهودا كبيرة في تنظيف الشوارع والحدائق وزرع الأشجار ، ولكن قد لا يهتم الناس بالقاء الفضلات في الأماكن المخصصة لها ، او الحفاظ على الأشجار وعدم إقتلاعها. كذلك قد يكون الناس على دراية بمخاطر التدخين بالنسبة للغير ، ومع ذلك فانهم يدخنون في الأماكن المحظور التدخين فيها. وقد يكون الناس على دراية بما تسببه الضوضاء من إزعاج للآخرين ، ولكنهم يطلقون أبواق سياراتهم ، أو يرفعون صوت أجهزة الراديو والكاسيت والتلفزيون دون مبالاة ومراعاة لمشاعر الآخرين وحقوقهم.