لم يكن للصراع السوري عواقب إنسانية واقتصادية مدمرة فحسب بل إنه ألحق أيضًا أضراراً كبيرة بالبيئة في البلاد. تُقدم هذه الورقة دراسة استقصائية أولية لمجموعة من التحديات البيئية التي تترتب عليها أضرار صحية واجتماعية واقتصادية فادحة؛ بما في ذلك تلوث الهواء، والانبعاثات، واجتثاث الغابات، وتآكل التربة وانحسار الغطاء النباتي، ونضوب المياه،. تقترح الورقة أيضاً حلولاً خضراء معيّنة كجزء من جهود الإغاثة وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع.
عشر سنوات مرّت على الصراع السوري أودت بالبلاد في هوة سحيقة، تكبدت خلالها خسائر إنسانية واقتصادية فادحة: إذ تُشير التقديرات إلى أن عدد القتلى يتراوح ما بين 384-593 ألف شخص حتى كانون الأول/ديسمبر 2020؛ فضلاً عن أن ما يُقدّر بنحو 13.5 مليون إنسان يعانون من ويلات النزوح القسريّ، نصفهم تقريباً مشرَّدون داخلياً، يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة؛ في حين تكبدت سوريا خسائر اقتصادية تُقدّر بنحو 428 مليار دولار في الفترة من 2011 إلى 2018 (أي ما يعادل ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي عام 2010)؛ وانهارت قيمة الليرة السورية (انخفضت قيمتها الآن إلى أقل 13 مرة عما كانت عليه قبل اندلاع الصراع)؛ بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة؛ والدمار الذي لحق بالممتلكات المادية بما في ذلك المنازل والبنية التحتية والمستشفيات والمدارس؛ إضافة إلى حقيقة أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر (المرصد السوري لحقوق الإنسان، 2020). غير أن هذه الحرب تسببت أيضاً في أضرار بيئية خطيرة - وهي إحدى صور الدمار الذي لا يحظى بقدر كبير من الاهتمام، ولكنه قد يُلحق ضرراً محتملاً كبيراً من شأنه أن يخلف تأثيرات سلبية طويلة الأجل على الصحة العامة والاقتصاد وعملية السلام نفسها، ولا بد وأن يكون عنصراً محورياً في أي جهود ترمي إلى الإغاثة أو إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الضرر البيئي ليس مجرد أثر لكنه أيضاً من الدوافع المؤججة للصراع؛ فقد تبين أن الظروف البيئية السيئة التي مُنيت بها سوريا قبل الحرب هي أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في نشوب الصراع المُسلح؛ ويشمل ذلك على وجه التحديد سوء إدارة الموارد الطبيعية والنفايات، واستجابة الحكومة غير الوافية تجاه التلوث الناجم عن التعدين، وقسوة الجفاف الذي حدث في الفترة بين عامي 2006 و2010، والذي ألحق الضرر بالقطاع الزراعي (الذي يُشكل 25% من الناتج المحلي الإجمالي)، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، وما أسفر ذلك عنه من موجات الهجرة الجماعية نحو المراكز الحضرية. ومع ارتفاع معدل النمو السكاني، أدت ندرة المياه إلى تعاظم خطر زعزعة الاستقرار السياسي.
لقد خلف عقد من الحرب آثاراً بيئية خطيرة بسبب كثرة استخدام الأسلحة المتفجرة، والأضرار التي لحقت بمصافي تكرير النفط (وما ترتب على ذلك من تلوث التربة، وتلوث البيئة بصورة عامة، وما أعقب ذلك من الاعتماد على مصافي تكرير النفط المؤقتة التي تُسبب درجة عالية من التلوث)، وبسبب سوء إدارة النفايات والمياه، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. تُقدم هذه الورقة دراسة استقصائية أولية لمجموعة من التحديات البيئية التي تترتب عليها أضرار صحية واجتماعية واقتصادية فادحة؛ بما في ذلك تلوث الهواء، والانبعاثات، واجتثاث الغابات، وتآكل التربة وانحسار الغطاء النباتي، ونضوب المياه، وسوء إدارة النفايات. تقترح الورقة أيضاً حلولاً خضراء معيّنة كجزء من جهود الإغاثة وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع. ولا بد الآن من إيلاء الأولوية لبذل المزيد من الجهود لتقييم الآثار البيئية التي خلفها الصراع، ولإدماج التخطيط والاعتبارات البيئية في خطط إعادة الإعمار. ولكن في نهاية المطاف، سيتطلب أيُّ جهد يرمي إلى التخفيف من الأضرار البيئية ووضع سوريا على مسار أكثر استدامة مستوىً من التعاون والتنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة والمناطق الجغرافية في سوريا، وهو أمر يبدو بعيداً في هذه المرحلة.
التدهور البيئي والمخاطر الصحية والتكلفة الاقتصادية
تلوث الهواء
عانت سوريا من مستويات عالية من تلوث الهواء حتى قبل اندلاع الصراع. فقد تعرض 69% من السكان عام 2010 إلى مستويات عالية من "الجسيمات الدقيقة" (التي يبلغ قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر PM2.5). هذا المستوى المرتفع من تلوث الهواء نتج عن الانبعاثات الصناعية وعوادم المَرْكبات، وحرق النفايات، والتلوث الموسمي؛ فقد ساهمت الجسيمات الخطرة في الإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة ومشاكل التنفس وأدت إلى الحاجة إلى العلاج داخل المستشفيات. وقد أدى اندلاع الصراع، في البداية، إلى خفض نسبة السكان المعرضين للجسيمات الدقيقة (بنسبة 7% عام 2011)، وذلك نتيجة هروب السكان من المدن بأعداد كبيرة وانخفاض النشاط الصناعي واستهلاك الطاقة. ولكن هذا التوجه انعكس مساره في بداية عام 2012، وبلغ الانعكاس هذا ذروته عام 2015 ليصل إلى 72%.
ومع أن من الصعب للغاية إثبات وجود مثل هذه العلاقة السببية -لا سيما في ظل غياب البيانات الدقيقة الخاصة بمناطق جغرافية محددة حول تلوث الهواء داخل سوريا- فإن الزيادة الهائلة التي شهدها عام 2015 قد تكون نتيجة لمجموعة من العوامل؛ منها عمليات القصف الجوي التي شنتها الحكومتان السورية والروسية ضد الجماعات المتمردة؛ وعمليات القصف التي قادتها الولايات المتحدة ضد المنشآت النفطية التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية"؛ وحرائق الغابات والعواصف الترابية العاتية التي نجمت عن العمليات العسكرية، إضافة إلى تدهور النشاط الزراعي؛ علاوة على الهجمات الكيميائية التي شنتها حكومة الأسد في آذار/مارس ونيسان/أبريل وأيار/مايو من عام 2015. وقد حلت سوريا في المرتبة 18 بين أكثر الدول تلوثاً في العالم (من بين 92 دولة) عام 2019، وفقاً لتصنيف منظمة الصحة العالمية، إذ بلغ تركيز "الجسيمات الدقيقة" (PM2.5) ثلاثة أضعاف مستوى التعرض الموصى به من منظمة الصحة العالمية.
يؤثر مستوى "الجسيمات الدقيقة" تأثيراً مباشراً على الصحة العامة: فقد ازدادت تقديرات الوفيات الناجمة عن الأمراض التي يسببها تلوث الهواء في الأماكن المفتوحة بنسبة 17% بين عامي 2010 و2017، بإجمالي 7,684 شخص؛ وتُشكل حالات الإعاقة الناجمة عن التعرض إلى "الجسيمات الدقيقة" 1,625 لكل 100 ألف شخص في سوريا. فضلاً عن ذلك، فإن معدلات الوفاة والعجز المرتفعة هذه تؤثر أيضاً على تكاليف الرعاية الصحية: إذ يُقدَّر العبء الاقتصادي للأمراض والوفيات المبكرة المرتبطة بتلوث الهواء في سوريا بنحو 0.6% - 1.42% من الناتج المحلي الإجمالي؛ في حين زادت المخاطر البيئية/المهنية التي تؤدي إلى الوفاة والعجز بنسبة 16.5% بين عامي 2007 و2017. علاوة على هذا، تؤثر المستويات العالية من "الجسيمات الدقيقة" أيضاً على الإنتاجية الزراعية وتقلل من غلّة المحاصيل، لا سيما بذور القمح والبذور الزيتية التي تتأثر أكثر من غيرها (شو وآخرون، 2015).
شكل 1: النسبة المئوية للسكان المعرضين للتلوث بـ"الجسيمات الدقيقة" (PM2.5) في الفترة بين عامي 2010 و2017 (البنك الدولي، 2017)
انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون
أدى اندلاع الحرب إلى انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وذلك بسبب الدمار الذي لحق بقطاع الطاقة (المصدر الرئيسي للانبعاثات)، وتردِّي الأنشطة الزراعية، وتراجع عمليات التصنيع، وتعطل إنتاج النفط والغاز بسبب الأضرار التي لحقت بخطوط الأنابيب وغيرها من البنية التحتية في المصافي الرئيسية المملوكة للدولة في مدينتي بانياس وحمص. انظر شكل 2 للاطلاع على توزيع الانبعاثات بحسب القطاعات.
الكهرباء والتدفئة
0 طن
وسائل النقل والمواصلات
5 مليون طن
الصناعات التحويلية والتشييد
10 مليون طن
المباني السكنية
15 مليون طن
الصناعة
20 مليون طن
احتراق أنواع أخرى من الوقود
25 مليون طن
الانبعاثات الهاربة
الزراعة والحِراجة والاستخدامات الأخرى للأراضي
شكل 2: انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في سوريا، حسب القطاع، في الفترة بين عامي 2005 و2016
المصدر: انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون حسب القطاع، سوريا (موقع "عالمنا في البيانات")
يشكل النفط والغاز المصدرين الرئيسيين لانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (انظر شكل 3)؛ وبما أن هذه الانبعاثات قد انخفضت انخفاضاً كبيراً على مدى العقد الماضي، بالتوازي مع تراجع إنتاج المواد المرتبطة بالنفط والغاز، والذي تقلص بنسبة 28% بين عامي 2011 و2015 (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، 2017). وقد تعرضت محطات الطاقة، في العديد من المدن، للتدمير التام أو تعرضت لأضرار جسيمة نتيجة للقتال والنهب وتفكيك المعدات المعدنية في المنشآت. بالإضافة إلى ذلك، حالَ نقصُ الغاز الطبيعي والديزل وزيت الوقود الثقيل دون تشغيل هذه المنشآت، وهو ما يُفسر أيضاً انخفاض مستوى الانبعاثات (عون وأرشد، 2017). وانخفضت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن صناعة الأسمنت أيضاً على مر السنين، بيد أنه ليس من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه، في ضوء مرحلة إعادة الإعمار المتوقعة في سوريا (لما لا يقل عن 60% من المناطق الحضرية التي تعرضت للدمار والخراب).
ومع انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ما تزال أعلى من المستويات الموصى بها. فقد وصلت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون السنوية في سوريا إلى 26.96 مليون طن عام 2019 (موقع "عالمنا في البيانات"، 2019)، وهو ما أسفر عن تكبد البلاد 1.4 تريليون دولار من التكاليف الاجتماعية (إذ تُقدَّر التكاليف الاجتماعية الحالية للكربون بنحو 50 دولار لكل طن من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي)، إضافة إلى زيادة احتمال حدوث ظواهر جوية قاسية مثل فترات الجفاف، مع انقطاع في سلاسل الإمدادات الغذائية - مماثلة لديناميات ما قبل الحرب.
علاوة على ذلك، واكَب انخفاضَ انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون حدوثُ أضرار بيئية أخرى. فقد تشكلت مواد خطرة بسبب قصف مصافي تكرير النفط في حمص وإنشاء داعش مصافٍ مؤقتة جديدة. فقد أدى انسكاب النفط من المصافي والآبار والشاحنات وخطوط الأنابيب والصهاريج المتضررة -التي تستخدمها داعش في عمليات التكرير- إلى تلوث الأرض والمياه السطحية والتربة، الأمر الذي أدى إلى تلوث مياه الشرب والأراضي الزراعية. وقد أدى التلوث والآثار الناجمة عن حرائق النفط إلى تدمير مساحات واسعة من الأراضي المزروعة والرعوية وقتل الماشية، الأمر الذي أدى إلى التأثير على مُربِّي الماشية والمزارعين.
شكل 3: انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، حسب مصدر المواد، في الفترة بين عامي 2005 و2018
المصدر: انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون حسب القطاع، سوريا (موقع "عالمنا في البيانات")