لابد أن أؤكد في بداية المقال على بعض المقدمات المهمة لكل من يقرأ هذه الأسطر ولعل ما اضطرني لذكرها هو كثرة وقوع محبي السينما ومتذوقيها (والذي وضع هذا المنتدى لأمثالهم) لبعض المهالك التي تنم عن قلة علم بكيف ينقد الفيلم السينمائي، وأختار من هذه المهالك مهلكين. الأول: الخلط بين أنواع الأفلام أثناء التقييم: نحن هنا لا نناقش الأذواق الشخصية بل نناقش الذوق النقدي العام، كثير من من يتصدر للنقد أو للتذوق الفني يحكم على فيلم كوميدي مثلا بمعايير فيلم تاريخي والدرامي بمعايير فيلم أكشن تقليدي وهكذا... وهنا نرى كل أنواع الخلط والعشوائية، فالسياق يحكم كل شيء، فحتى الحجج كما يقول فيلسوف الحجاج ستيفن تولمان لها مجالاتها المختلفة فالحجة المستعملة في سياق أخلاقي ليست كالتي تستعمل في سياق فيزيائي أو رياضياتي... (ستيفن تولمان، كتاب استعمالات الحجج، the uses of arguments). الثاني: عدم الاتساق، نعم نجد البعض إذا ما وقعت عيناه على سلبية معينة في فيلم ما يلصقها به كأن هذه السلبية ولدت مع هذا الفيلم، وهذا تناقض فكل نقطة سلبية شائعة في الكثير من الأفلام في مختلف السينمات العالمية أو في السينما التي تتضمن ذلك الفيلم فلا يجب المبالغة في التهويل من شأن تلك التقطة، مثال: سمعت بعض من انتقصوا من فيلم "باثان" أنهم انزعجوا من أن القصة تتشابه مع قصص أفلام أكشن وتناسوا أن أغلب سينما بوليوود هي منقولة بطريقة أو بأخرى من هوليوود وباقي السينمات بشكل أو بآخر، وتناسوا أيضا أن كثيرا من الأفلام العالمية تقلد بعضها في أنواع معينة كالرومانسية والكوميديا والأكشن، فلماذا تخصيص الأمر بباثان؟ هذا لعمري تخصيص دون مخصص. إذا نبدأ بالمقدمات الممهدة لهذه المراجعة النقدية: المقدمة الأولى: ليس كل فيلم تجاري بخال من اللمسات الفنية كما أنه ليس كل فيلم فني خال من اللمسات التجارية، وهذا لتحطيم صنم عبارة "الفن للفن" فالصحيح أن الفن خادم لأغراض الحياة الإنسانية برمتها، وللإنسان حاجات مختلفة فالحاجة الروحية يلبيها الفن الصوفي مثلا والاجتماعية يلبيها الفن النقدي الواقعي وهكذا... والترفيه أيضا حاجة إنسانية لذلك نجد لأفلام الحركة والأكشن والكوميديا رواجا في العالم كله. المقدمة الثانية: كلما كان الفيلم أكثر تجارية كلما أصبح البوكس أوفيس مؤشرا من مؤشرات جودته: وهذا يعني أن الأرقام العالية لأفلام الأكشن والكوميديا وبعض الرومانسية قد تدل (وأقول قد دون أي حتمية) على جودة الفيلم لاقتصارها على الترفيه، ولكون إقبال الناس لا يمكن أن يفسر إلا بتحقق تلك الغاية (الترفيه). المقدمة الثالثة: وهذه بخصوص الممثلين وهي أن الممثل لا يقيم فنيا بعبارات شعبوية كالتي نرى كثيرا منها في الفايس بوك أو في أرشيف المنتدى من بعض الأعضاء مثل " هذا الممثل أوفر أكتينج" "هذا بارد"... هذه كما قلنا سابقا مجرد عبارات ذوقية خاصة ليست خاضعة لما هو فني متعلق بذوق عام متواتر عن جمهور الخبراء والنقاد والمعجبين، وأرى والله أعلم أن الممثل يقيم بأمور عدة منها لغة الجسد وارتياحه في أداء الدور، ومنها سرعة تغيير ملامحه ولغة جسده وصوته حسب المقام، وهذا عندي أهم من تنوع الأدوار فكم من ممثل ينوع الأدوار والوجه واحد، خاصة في سينما مثل بوليوود كثير من الممثلين ينوعون الأدوار لضعف شعبيتهم وعدم تمكنهم من قلوب الجماهير. والآن لنبدأ في مراجعة فيلم باثان، هذا الفيلم الصادر سنة 2023 من إنتاج شركة ياش راج التي عانت مؤخرا من فشل أفلامها رغم أنها احتوت على ممثلين كبار لم يمثلوا من مدة كرانبير كابور في فيلم شامشيرا الذي رفم غيابه في سنة 2019 و 2020 و 2021 إلا أنه فشل فشلا ذريعا، كما أن مخرج الفيلم هو سيدهارت أناند المخرج المشهور بأفلام الحركة ذات الأسلوب الغربي. بطولة الفيلم: شاروخان الممثل الكبير والغني عن التعريف العائد بعد غياب طويل، وديبيكا بادكون، وجون أبرهام في دور الشرير وديمبل كامباديا واشتوش رانا، ظهور شرفي لسلمان خان. قصة الفيلم باختصار حول عميل سابق في وكالة استخبارات هندية خطف وعذب مما جعل الكل يظن أنه توفي، إلا أنه يعود لإنقاد بلده من عميل سابق أيضا خان بلده لأنه يظن أن بلده قد سبقته بالخيانة حين تخلت عن عائلته التي قتلها الإرهابيون أثناء أدائه لمهمة سرية، كما تدخل عميلة باكستانية في الخط لتنقد بلدها من سوء السمعة التي سيسببها جنرال سابق انشق عن الجيش ويريد أن يقوم بعمليات إرهابية في الهند بمعونة جون أبرهام العميل الهندي الخائن. وبين الحب والوطنية والعواطف الإنسانية يأخذنا الفيلم في جو مليء بالحركة والرومانسية الخفيفة والإثارة. القصة في خطوطها العريضة تبدو مألوفة في هكذا أنواع، لكن هذا هذا يعني أنها مكررة؟ أولا: واحتراما مني لنوعية الأفلام فالتكرار في أفلام الأكشن أبدا غير ضار والدليل سلسلة ميشن امبوسيبل لتوم كروز كل أجزاءها عن العميل الذي ينقد بلده لكنها دائما تنجح نقديا وتجاريا. ثانيا: أنا قلت "مألوفة" وليست مكررة كما قلت في خطوطها العريضة وليس في تفاصيلها، إذ أن التفاصيل حملت توليفات جميلة وغير متوقعة تماما كتقلبات حب باثان (شاه) لروبي (ديبيكا)، وسبب خيانة جون أبرهام لوطنه، مع صرامة اشتوش رانا مدير الوكالة الاستخباراتية المبالغ فيها في مقابل ليونة ديمبل كاماديا مع باثان، كل هذه الأمور جعلة من القصة جذابة للجمهور. السرد: السرد في هذا الفيلم كان رائعا، فنمو الأحداث لم يكن متسرعا، أو بطيئا فلحظة دخول شاه كانت في حدث حركي قتالي لتعطي للمشاهد انطباعا عن ما ينتظره من أكشن وهذا أمر رائع، كما أن طريقة ولحظة دخول ديبيكا متماش مع طبيعة دورها من جهة كعميلة متقلبة المشاعر في الفيلم، ومشاعرها تجاه جاسوس هندي من جهة أخرى، كما أن تعقد الأحداث كان سلسا ومترابطا منذ البداية فشخصية باثان التي تميل للعاطفة كما قدمت منذ البداية كانت مستمرة على هذا النحو إلى النهاية وأيضا الفلاش باك الذي عاد ليرينا ماض باثان الغامض جاء في وقته في حوار مع ديبيكا كما أنه أثر في الأحداث حين تقابل شاه مع الإرهابيين في أفغانستان لاحقا. التمثيل: إذا جاز لنا أن نختصر باثان في شخص فسيكون شاروخان وديبيكا لماذا؟ أولا: شاه قدم كل ما لديه في هذا الدور كوميديا موجودة، رومانسية غير صارخة مثل أفلامه السابقة موجودة، شراسة وعنف موجود، عواطف وحزن وفخر موجود أيضا، كل هذا عبر عنه شاه ببراعة بلغة جسده الذي عرف تحولا كبيرا رغم أنه خمسيني وبتعابير وجهه، وتكفي اللقطة الأخيرة إذ خرج من مقر الاستخبارات مازجا بين المزاح والفخر ودموع السعادة والتحسر على من مات من فريقه. - رانا: هل ستقص شعرك؟ - شاه: لا فقط سأغسله بالشامبو ههه ثم خروج بتلك الطريقة وااااو. أما ديبيكا فقد أدت دورا لم أر مثله في بوليوود شراسة تنسيك في كل أنوثة مع تعابير رومانسية رصينة وهادئة رائعة. جون أبرهام كان موفقا جدا وملامحه كانت ساخرة وشريرة بما فيه الكفاية. سلمان دخوله أعطى طابعا نشيطا للفيلم مع كاريزما جيدة. ديمبل رائعة أيضا هي واشتوش رانا. عموما الطاقم التمثيلي كان موفقا. الموسيقى: كانت حماسية ورشيقة ومتماشية مع الأحداث بستايل غربي نوعا ما. ومن أبرز ما أعجبني في الفيلم أنه قدم وطنية هندية دون المبالغة في الادلجة كما صرنا نرى في الأفلام الأخيرة، فباكستان هذه المرة ليس شيطانا، والعائلة المسلمة الأفغانية عالجت شاه وربته ليكون اسمه "باثان"، رغم بعض الإيحاءات التي لا نرتضيها عن كشمير إلا أن رسائل الفيلم في العموم كانت جيدة.
كما أن المؤثرات كانت رائعة وهوليودية إلا في لقطات صراع دبي فقط كانت سيئة هناك لكنها الأفضل لحد الآن في بوليوود مع ووار، وقد شاهدت الفيلم في سينما مدينتي تطوان وكان المشاهد البصرية أوضح وأجمل.
وفي النهاية هذا مجرد رأي قابل للصواب والخطأ.