لم تكنْ عبير تدرك تماماً ما يدورُ في خاطر ذلك الرجل الجالس على الطاولة المقابلة لها في إحدى المطاعم الشعبية وسط المدينة الكبيرة ...
كانت عبير وهي شابة متوسطة الجمال في العشرينييات من عمرها قد اعتادت أن تتناول طبقها المفضّل (الفتّة) في مثل هذا الوقت من اليوم ...
كان يومها عادياً جداً , تقريباً مثل كل يوم، تخرجُ من بيتها في الصباح الباكر قاصدةً الجامعة , و في منتصف النهار تقريباً تنطلق منها نحو مركز التعليم والتأهيل الخاص بالأطفال حيث تعمل هناك بوظيفة الإشراف على الجلسات الخاصة بتطوير مهارات الحياة عند الأطفال ...
في المطعم, و أثناء تناولها لطبقها المحبب ,لاحظت عبير تلك النظرات المريبة و المباشرة لها من قبل ذلك الرجل , كانت نظراته الحادة مصوّبةً نحوها , لا يحوِّل نظره عنها مهما كان , حتى و هو يأكل أو يكلّم أحد الأشخاص القريبين منه, إنها بالفعل لوقاحة لا مثيل لها , أدارت عبير كرسيها و أخذت موقعاً جديداً في مواجهة الباب الرئيسي للمطعم, فما كان من الرجل الغريب أن قام هو أيضاً و انتقل ليجلس في مكان آخر يقابلها و يواجهها , غضبت عبير كثيراً , أنهت طعامها سريعاً , وضعت على الطاولة مبلغاً من المال ثم قامت منصرفةً تقصد الطريق إلى بيتها...
أخذت تسلكُ طريقها الإعتيادية بخطواتٍ سريعة و جريئة , تفكر برجل المطعم , يا ترى ماذا يريد مني ؟ هل يعرفني من قبل ؟ هل يريد بي السوء ؟ أم هو رجل مختل عقلياً ؟
عشرات الأفكار بدأت تغزو رأسها و تهيمن على تفكيرها , بعضها فقط كانت أفكاراً إيجابيةً, فجأة و أثناء غرقها بتلك الأفكار , شعرت عبير بتتابع خطواتٍ متسارعةٍ تقترب منها , لم تلتفت , بل تابعت طريقها و أخذت خطوات سيرها بالإتساع شيئاً فشيئاً , بدت كأنها هاربةً من شيء ما خطير يُقلقها و يُرهبها, المكان من حولها مكتظٌ بالبشر , أحسَّت بشيءٍ من الطمأنينة , هل تصرخ و تطلب النجدة منهم ؟ ماذا سوف تقول للناس ؟ هل سيتقبّلون ما ستقوله لهم ؟ هل سيتعاطفون معها ؟ أم سيخذلونها ..!!
تسمّرت عبير في مكانها, استدارت ببطء شديد , أصبحت بمواجهة رجل المطعم (المزعج) و الذي توقّف هو أيضاً و بدا مضطرباً جداً :
"ماذا تريد مني يا هذا؟" قالت عبير للرجل بصوتٍ مرتعش و بلهجةٍ حازمةٍ ثم تابعت بالقول:
"سوف أُرسل في طلب الشرطة حالاً " قالت و هي تمسك بهاتفها النقّال .!
" لا , أرجوكِ , لا تُثيري إنتباه الناس في الشارع من حولنا " قال الرجل و قد بدا هادئاً رزيناً و تابع قائلاً:
" أنا لا أقصد بك شراً معاذ الله , كل ما بالأمر أنني عندما رأيتك بالمطعم اليوم تذكرت ابنتي , و التي فقدتها منذ مدة , أنتي تشبهينها كثيراً , لم استطع أن أحوّل نظري عنك من وقتها , أرجوكِ يا ابنتي لا تلومي أباً مفجوعاً فَقَدَ إبنته ثم عَادَ و رأى طيفها من جديد ...!!!
سادَ صمتٌ مطبقٌ حائرٌ بين الإثنين , شعرت عبير بعاطفةٍ ما تجاه هذا الرجل الغريب , تذكرت والدها و كيف كانت تنتظره و يحضنها,كيف كان يحملها و يضعها في سريرها لتنام...
دسَّ الرجل يده في جيب سترته و أخرج منها صورةً قديمةً قد اهترأت جوانبها و غابت ألوانها , أعطاها لعبير و التي أمعنت النظر فيها طويلاً , إنها صورة قديمة لطفلة صغيرة لا تشبهها كثيراً ..!!
إغرورقت عينا الرجل و عبير بالدموع و تعانقا طويلاً وسط دهشة كل من كان موجوداً بالمكان حولهما.
^^^^^
تمت بعون الله