...... العميل المزدوج (قصة لـــ عنتر أحمد الجزائري )
قابع في سجن جون دارك قرب مرسيليا منذ سنتين ، جوزيف راسم يقص قصته على رفقاء عنبره .
يقول جوزيف راسم :
تخرجت من جامعة ليون و من كلية الحقوق فيها ، في عام خمسة و ستين كنت حينها في الثالثة و العشرين من عمري ، و كان قد إنتهى التأجيل الخاص بالخدمة العسكرية خاصتي فسعيت إلى تجديده لأني كنت أنوي السفر خارج البلاد و لا يمكنني ذلك دون ترخيص .
حين وصلت إلى مكتب التجنيد في المدينة استقبلني ضابط هناك أجرى معي حوارا مطولا ثم طلب مني الانتظار ، انصرف كل الشبان الذين كانوا معي و بقيت أنا و شابان آخران إحداهما فتاة .
بعد وجبة غذاء رائعة مع أفراد المركز ، استعدينا في المساء إلى مكتب الرئيس المسؤول .
- أنا الكولونيل كارتر دي مارو المسؤول عن مركز التجنيد و الخدمة العسكرية بليون و أيضا المختص في تزويد جهاز مخابرات الدولة بالأعضاء فأنا طبيب نفساني ذو خبرة في طبيعة الأشخاص ،
دخل الكولونيل في الموضوع مباشرة دون مقدمات قائلا :
... رأيت فيكم مثالا لضابط الاستخبارات الناجح ، هل في نيتكم خدمة فرنسا و الحصول على مزايا السفر و العمل ؟ هل تريدون التعبير عن حبكم لوطنكم و رد الجميل له ؟ إن كنتم مهتمين فأنا أرشحكم لتكونوا ضباطا في شعبة المخابرات الفرنسية العامة .
- أنا إسمي آنا مارغريت عشرون سنة من مدينة نيس حاصلة على ليسانس في الترجمة ، أقبل عرضك مبدئيا سيادة الكولونيل في انتظار استئذان والدي .
- أنا كانو بولار أربعة و عشرون سنة من أصول كميرونية أسكن بليون مع أمي الفرنسية فأبي الكمروني متوفي ، أنا حاصل على دبلوم في برمجيات الإعلام الآلي ، مستعد للعمل معكم سيدي .
نظر الجميع اتجاهي و أشار إلي الكولونيل بحاجبيه يطلب مني الحديث بدوري ، علمت حينها أن تقديم آنا مرغريت لنفسها و تقديم كانو بولار كان مدبرا و من نبرة صوتيهما المشوب بالثقة الزائدة عرفت أنهما يعملان مع الكولونيل و أنا الوحيد المطلوب للتجنيد ،
- أنا جوزيف راسم عمري ثلاث و عشرون سنة من مدينة ليون حاصل على ليسانس في الحقوق ، أبي مفقود و أمي متوفية أعيش مع جدي على إعانات الحكومة ، جدي مصاب بالزهايمر و أنا أبحث عن تحديات جديدة و يسعدني العمل معكم ، ثم أردفت قائلا : مع ملاحظة أن آنا و كانو ما هما إلا ملازمين في شعبة المخابرات العامة اختصاص تجنيد و أنت يا سيادة الكولونيل الضابط الأعلى المسؤول .....
يواصل جوزيف راسم سرد قصته على زملاء عنبره في السجن .....
بعد أن سويت كل أموري العالقة ، أودعت جدي دار العجزة بمدينة ليون و التحقت بمدرسة تكوين ضباط الاستعلامات قرب مدينة مرسيليا ، كان ذلك في بداية سنة ثلاثة و ستين ، جمعت المدرسة ألمع شباب فرنسا ، كانت دفعتنا مكونة من أربعين شابا و شابة أعمارهم ما بين العشرين و الخامسة و العشرين كلهم بمستوى جامعي و لياقة بدنية ممتازة .
تلقينا تكوينا عاما و تكوينات خاصة في طرق الإختراق و التتبع و التصنت ، سرقة المعلومات و استغلالها في دراسة سلوكات الأشخاص و كيفية التقرب منهم و استعمالهم ، كانوا يصنعون منا آلات حقيقية لجمع المعلومات لخدمة اغراض سياسة فرنسا .
كنت من الطلاب الممتازين في كل المجالات و في نهاية السنة الثالثة كنت الأول على دفعتي .
ملازم أول في الجيش الفرنسي اختصاص ضابط اختراق ، هكذا كنا نسمى ، حصلت على شارتي و إسمي الحركي " نسر 12" ، و بدأت حياتي العملية .
حُوِلت إلى مقر وزارة الخارجية الفرنسية بباريس عملت كموظف لدى مكتب كاتب الوزير ، برعت في العمل المكتبي و كونت علاقات كثيرة ، كان يمر علي وقت أنسى فيه حتى أنني ضابط مخابرات ، اكتسبت خبرة كبيرة في مجال الإتصال و العمل على جهاز الاعلام الآلي ،
كنت و ثمانية من زملائي نكون شعبة باريس ، نلتقي بضابط الإتصال الخاص بنا مرة في الأسبوع في شقة سرية ، و اذا استلزم الامر كنا نُسْتدعى باتصال مشفر على عجل .
كنت أقدم تقاريري عن العمل داخل مكتب كاتب الوزير و حتى عن الوزير نفسه و كل الأشخاص المهمين بالوزارة ، كل صغيرة و كبيرة أسجلها و أقدمها مع تقرير خاص أحللها فيه و أعطي رأيي عنها .
بعد عام من عملي في باريس استدعيت للعمل خارج الوطن و كانت أول مهمة لي ضابط اتصال بسفارة فرنسا بتونس ،كان ذلك في عام سبعة و ستين ، و كم كان عملي هناك مهما لي من ناحية تكوين شخصيتي كرجل مخابرات من الطراز الأول ، تعلمت اللغة العربية و اندمجت في المجتمع التونسي ، ساعدتني سحنتي العربية و شكلي على ذلك لم أكن اختلف عن الرجل التونسي العادي في شيء ، كتبت عن كل شيء في تونس و اعددت تقارير كثيرة عنها في السياسة و الاقتصاد و عن المجتمع و عاداته و دينه و عن العلاقات بين أفراده ، قدمت تقارير عن الجيش التونسي و الشرطة عن الجمعيات و الحزب و عن مستوى المعيشة و التعليم ، قدمت على مدى سنتين مئات التقارير بخصوص نظرة استشرافية عما ستكون عليه تونس في خلال حكم بورقيبة و علاقتها بفرنسا ،
حصلت على وسام شرف تقديرا لجودة عملي و دقته ، و مع بداية عام ثمان و ستين استدعيت إلى مقر المخابرات الفرنسية ، استقبلني رئيس المخابرات بنفسه في مكتبه
- أهلا جوزيف
- أهلا بك سيدي
- أنت من ألمع الضباط لدينا ، أنت مثال لضابط المخابرات الممتاز ، عملك بمقر وزارة الخارجية و بسفارتنا بتونس في غاية الدقة و الروعة و لهذا قررنا أن نكلفك بمهمة أخرى لكنها مختلفة نوع ما ، تستدعي أن نعيد تكوينك و ترتيب شخصيتك ، سيقوم ضباط مختصين بتدريبك و تعليمك لمدة ستة اشهر قبل أن تسافر إلى وجهتك
- حاضر سيدي
لم أسأله عن المهمة و لا عن طبيعتها ، فقد كنت مثالا لضابط المخابرات القاسي البارد الذي لا يهمه مكان و لا زمان و لا إنسان ما يهمه هو تنفيذ ما أمر به فقط ،
ستة أشهر من التكوين في كل المجالات ، تعلمت طرق الرمي بمختلف الأسلحة خصوصا الخفيفة منها ، و كيفية زرع المتفجرات و التمويه و الإختباء ، تعلمت التعايش مع أقسى الظروف من حر و قر و جوع و عطش ، تعلمت اللغة العربية نحوا و صرفا بلاغة و شعرا و خطابة ، قراأت عن العرب ، عن عاداتهم و طبيعتهم ، درست جغرافيا البلدان العربية و ركز مدرسي على منطقة المغرب العربي .
كنت متيقنا أن مهمتي ستكون خطيرة و ستكون في بلد من البلدان الثلاثة تونس ، الجزائر أو المغرب ، و بما أنني كنت في تونس فاحتمال المغرب و الجزائر هو الأقرب و نظرا لوجود بومدين على رأس الحكومة الجزائرية و نظرته العدائية لفرنسا ، فأنا متأكد من أن و جهتي ستكون الجزائر .......هذه كانت إجابتي على سؤال طرحه علي مدير المخابرات حين استقبلني في آخر أيام التربص قائلا :
- أين تظن ستكون مهمتك ؟
مع انتهاء فترة تدريبي استدعاني مدير المخابرات الفرنسية و أعطاني تكليف بمهمة سرية في الجزائر ، كان ذلك في ربيع تسعة و ستين ،
ملف بسيط فيه أوراق ثبوتية بإسم مزاوي محمد من مدينة عنابة ، و ورقة بها معلومات عن شخصيتي الجديدة ، محمد مزاوي : تقني في البرتروكيميا متحصل عليها من معهد روزا دور الفرنسي للبتروكيميا ، قضيت آخر عشر سنوات في باريس عند عمي المهاجر هناك بعد وفاة والدي ، ثم عدت إلى الجزائر ، قضيت سنة مع جدي و الذي توفي بدوره منذ سنة أشهر ، معفى من الخدمة الوطنية بسبب صحي ، وجدت عملا في شركة فرنسية للبترول تعمل في جنوب البلاد .
أسبوعا بعد لقائي بمدير المخابرات كنت على متن طائرة للخطوط الجوية الجزائرية مقلعة من مطار شارل ديغول باتجاه مطار الدار البيضاء بالجزائر .
توجهت بعدها إلى مدينة عنابة قضيت فيها أربعة أشهر ، تعرفت فيها على كثير من الأشخاص و كنت خلال فترة تواجدي تحت عيون رجال المخابرات الفرنسية و عملائها من الجزائر ، لكن لم أكن التقي أحدا منهم ، كانت لدي وسائلي الخاصة في الاتصال ، كان يجب أن يكون غطائي تام و ألا يشك بي أحد ، كنت بعيدا عن العيون و أمارس نشاطا استخباراتيا يجعل مني رجل خفي ، استعملت كل قدراتي العملاتية التي تعلمتها خلال سبع سنوات قضيتها في الجهاز ، و نجحت في الظهور بمظهر محمد مزاوي و أصبح لي معارف يعرفوني باسم " لميڨري " .
عدت إلى العاصمة استلمت أوراق عملي و اتجهت إلى جنوب البلاد ، إلى حقل بترول قرب حاسي مسعود ، عملت لمدة شهر و خمسة عشر يوما ، أخذت بعدها إجازة و عدت إلى العاصمة هناك تلقيت مهمتي عن طريق وسيط جزائري و قد كانت " تقييم قدرة الجزائريين على التحكم في تكنلوجيا البترول استخراجا و استغلالا و تسويقا " .
و هكذا بدأ عملي بشكل رسمي ، و انطلقت في تكوين علاقات عمل و صداقات ، كنت أنشط بين حاسي مسعود و ورڨلة و العاصمة ، أصبحت معروفا بنفس الإسم الذي عرفت به في عنابة ....لميڨري .....
لميڨري ....الكل كان يناديني بهذا الإسم ، يظنون أني جزائري لأنني أعطيتهم انطباعا حقيقيا بذلك فقد كنت جزائريا في لهجتي و تصرفاتي جزائري في لا مبالاتي و عفويتي ، و لم أنسى أبدا مهمتي فقد كنت أراقب كل شيء و استمع إلى كل صوت ، أقيم العمال و أدرس مؤهلاتهم و قدراتهم و ميولاتهم ، ثم أعدد التقارير و أرسلها من العاصمة عن طريق مخبر سري يعمل بالسفارة الفرنسية بالجزائر و كنت أحيانا أرسلها عن طريق قنصليتنا بعنابة أو وهران كاحتياط أمني .
في آخر زيارة لي لمدينة عنابة و بعد أن أنهيت عملي و أرسلت الملف ، كنت أتسكع في شوارعها ، كان ذلك في بداية صيف عام سبعين أمسية جميلة ، هواء منعش و صورة البحر تلامس الأفق تجعل من شمس ذلك اليوم عروسا تزف إلى بيتها الجديد ، و أنا رجل المخابرات المدرب لم أكن ألقي بالا لأي شخص و خصوصا لأي فتاة ، لكن يشاء قدر ما أن أتخطى أول قواعد العمل السري و أبتسم ردا على ابتسامة لفتاة عشرينية كانت تجلس إلى طاولة مع أسرتها قبالة البحر ، لم أستطع إكمال رحلتي المسائية ككل يوم ، جلست إلى طاولة بجانب الأسرة مستمتعا بمنظر البحر و متذوقا أحلى بوظة أكلتها يوما ، كل شيء كان يبدو جميلا ، و لأول مرة من سنوات تناسيت أني رجل مخابرات و استسلمت ، وقفت الفتاة و أقبلت نحوي ، تكلمت بلهجة عنابية ،
- اذا أردت يمكنك الانضمام إلينا ، نحن عائلة
تعجبت لجرأتها و هي عادة غير معهودة في الجزائر ، لكن قدرتي على التحليل و الاستغلال توقفت ، لقد أخذت الفتاة بلبي ،و حاصرتني من كل الجهات .
انضممت إلى العائلة و أمضيت معهم وقتا رائعا ، عرفوا أني محمد مزاوي من عنابة كنت مهاجرا و عدت إلى وطني و أني أعمل في جنوب البلاد ، عرفوا كل ما أردتهم أن يعرفوه و أخبروني كل ما أرادوا أن يخبروني به ، و العجيب أني صدقتهم رغم أني رجل المخابرات الحريص و الشكاك في كل شيء ، استسلمت من أول نظرة و من أول كلمة و من أول لقاء ،
أصبحت أزور العائلة سرا في مسكنهم بعنابة و تعرفت عليهم واحدا واحدا ،
قل حجم العمل الذي أرسله إلى رؤسائي و انتابهم القلق من تصرفاتي ، خشي مسؤولي المباشر أن أفقد غطائي فأرسل إلي يطلب مني العودة إلى فرنسا من أجل إعادة التأهيل كما تسمى .
ودعت العائلة و أخبرتهم أني مسافر إلى فرنسا لقضاء حاجة مهمة تخص العائلة و هكذا عدت إلى باريس و إلى مقر المخابرات الفرنسية ، تمت إعادة تنشيطي و برمجتي و طلبوا إلي الانتباه إلى عملي أو سيتم توقيفي فورا نظرا لخطورة الموقف ، مكثت في باريس أربعة أشهر ثم عدت إلى عملي المعهود ، منعني رؤوسائي من العودة إلى عنابة ، إلا أني كنت ألتقي الفتاة في العاصمة ، كانت ذكية جدا و جميلة جدا ، كانت مندفعة إلى معرفة كل شيء يخصني و كنت مستسلما كأول يوم ، ثم كانت المفاجأة بعد لقاءات متعددة بيننا وجدت نفسي و لأول مرة أعترف لها بأني رجل مخابرات فرنسي ،
اعترفت لصونيا بهويتي ، دون أن تسألني مباشرة ، كانت تكتفي فقط بنظرة من عينين قاتلتين تتبعهما بابتسامة تظهر من خلالها أسنانا مصطفة كمثل اللؤلؤ ، كنت فاقدا للقدرة على التمييز أما هي فتحسن الحوار و تتقن فن الحديث ، أخبرتها كل شيء و ما كنت لأفعل في مكان آخر ولو عذبوني أشد التعذيب فقد كنت أملك قدرة على التحمل تعلمتها من خلال التدريب ، لكن نسي رؤسائي أن يدربوني على تجنب لغة العيون و الشفاه .
- حسن ، الآن بعد أن أخبرتني ما كنت أحتاج معرفته ، أريدك أن تعرف من أنا حقا
- ماذا ؟ ألست صونيا من عنابة التي أعرف
- عندك نصف الحقيقة فقط ، تعال معي
عبرنا ساحة الشهداء منفصلين كانت تسير أمامي بخطوات و تمشي بسرعة ، ترتدي ملاءة تخفي شخصيتها ، لقد كان تصرفها يوحي بأنها في ميدان الاستخبارات هي أيضا أو هكذا خيل إلي ، بعد ربع ساعة من الصعود باتجاه القصبة انعطفت فجأة يمينا و دخلت زقاقا ، أسرعت الخطى خلفها ، كانت أفكارا غريبة تراودني ، ربما استسلمت هي أيضا و تريد أن أقضي معها بقية الأسبوع في بيت منعزل ، ربما هي من المخابرات الجزائرية و قد كشفوا أمري ، ربما !!!!!
حين ولجت بداية الزقاق رأيتها تدلف إلى داخل بيت في آخره فتبعتها .
- أهلا و سهلا بك سيد جوزيف !!!!
كدت أسقط من هول ما سمعت لقد ناداني رجل بإسمي الحقيقي ، لم أسمع أحدا يناديني به منذ سنوات ، و قالها بلغة فرنسية صحيحة ، الآن أنا في ورطة حقيقية ، اشتد علي الأمر و كدت أسقط من هول الصدمة ، أحست صونيا بذلك فاقتربت مني و همست في أذني :
- لا تخف أنت في أمان و إنما كنت في خطر قبل الآن .
أمرني الرجل بالجلوس و بدأ يتحدث و يعطي إجابات لأسئلة كنت أنوي طرحها
- نحن من المخابرات الجزائرية ، شعبة مكافحة الجوسسة ، قد علمنا بنشاط مجموعتكم المكونة من خمسة أشخاص ، و أجرينا بحثا مطولا عنكم ، باقي المجموعة تم القبض عليها صباح اليوم أما انت فقد كنت حالة خاصة ، في خلال بحثنا عن أصولك و عن جذورك و جدنا أنك من أب جزائري ، و أم فرنسية
- ماذا ؟!!!!!
- نعم ، ألم تتساءل يوما عن معنى إسمك الثاني " راسم " ألا ترى أن أصله عربي و معناه من يرسم ؟
- أبدا لم أفعل
- و ماذا عن الذين جندوك ، ألم يجروا عنك بحثا قبل أن يرسلوك إلى هنا ؟
- أظنهم فعلوا
- بالتأكيد فعلوا و لما وجدوا أن أصولك جزائرية أرادوا توريطك في خيانة وطنك
- لكني لم أكن أعلم ، أنا فرنسي ،و قد أخبرت صونيا بهويتي و أنا الآن بين أيديكم
- أنت في أمان ، بعكس بقية المجموعة
- أنا أعمل وحدي
- هناك أربعة أعضاء آخرين و قد كشفنا أمرهم
- و ماهو مصيري الآن ؟
- نريد منك خدمة أخيرة و بعدها أنت حر
كنت في مركز للمخابرات الجزائرية في وسط حي القصبة ، أجلس إلى مجموعة من الضباط من بينهم صونيا تلك الفتاة التي كنت أظنها عادية فكانت صف ضابط بشعبة مكافحة الجوسسة فرقة العمل الميداني ، و أمامي يجلس مسؤول المركز
- نريد منك عملا أخيرا و بعده أنت حر
- ماذا تريد مني ؟
- نريدك أن تغير مضمون تقريرك الأخير ، نعرف أنك لم ترسله بعد
- لقد كتبت فيه أن الجزائريين على استعداد تام لتأميم بترولهم و أنهم سينشئون شركة لاستغلاله و تسويقه و أن رئيسهم يملك الطاقات البشرية و المادية لفعل ذلك ، كتبت في تقريري أن شركات أجنبية من أمريكا و روسيا و انجلترا مستعدة للعمل في شراكة مع الجزائر ، و قد وضعت قائمة بأسماء المهندسين الجزائريين و التقنيين الذين إذا تم استبعادهم فلن تقوم لصناعة البترول في الجزائر قائمة ، فما الذي تريد مني تغييره في التقرير ؟
- كل شيء ، عليك أن تعطيهم معلومان مغلوطة ،
تناول ورقة من مغلف كان أمامه و سلمها إلي ، قرأتها فوجدت فيها عكس ما كتبت تماما ،
- لكني سأكون في خطر ، ماهي الضمانات التي تقدمونها لي ؟
- أنت مقبوض عليك بتهمة التجسس و الخيانة بصفتك جزائري ، و عقابك السجن مدى الحياة أو الإعدام
- حسن ، سأفعل
خرجت من المركز في حدود منتصف الليل ، علمت أنني مراقب ، كنت محبطا و أعاني من ضغط نفسي رهيب ، كانت كلمات الضابط عن أصلي الجزائري هي ما كان يخغف عني .
بعد يومين سلمت تقريري المزيف إلى الوسيط في مدينة وهران و سافرت إلى الجنوب حيث عملي المزعوم .
بعد شهر تلقيت رسالة مشفرة ، يطلب مني مسؤول بالسفارة العودة إلى عنابة ، هناك قبضت علي فرقة من جنود النخبة التابعة للمخابرات الفرنسية ، تم تحويلي إلى تونس و منها إلى هذا السجن الذي أكلمكم فيه ، أنا هنا معكم بدون محاكمة منذ أربعة أشهر ، لم يتم استجوابي و لم أتلقى اتهاما و لا أعرف لما أنا هنا أصلا ،...... إلا أنني متأكد من أنني انتهيت و لهذا أخبرتكم كل قصتي ليبلغ أحدكم ما قلته لخارج السجن لعل هناك من يهتم للأمر .....
يقبع جوزيف راسم في سجن جاندارك بالقرب من مرسيليا ، سجن سري تابع للمخابرات الفرنسية ، بينما تجري عناصرها تحقيقات واسعة في سبب سقوط شبكة الجواسيس التي كانت تعمل في الجزائر منذ سنوات ،
جوزيف هو الوحيد الذي لم تعتقله المخابرات الجزائرية و لهذا شك مسؤولو المخابرات الفرنسية في أمره و تم اعتقاله و تهريبه ، خصوصا بعد حصولهم على معلومات بشأن علاقته بفتاة من عنابة ربما تكون عضوا في المخابرات الجزائرية ، تحقيقات الاستخبارات الفرنسية لم تصل إلى نتيجة ، و قد اضطرت في كثير من الأحيان إلى التخلي عن مبدأ السرية و العمل دون غطاء ، سبب لها ذلك كارثة ميدانية ، فقد تم كشف جل عملائها في الجزائر و امتد الوضع إلى المغرب و تونس ، حيث سقط في شباك رجال أمن الدول الثلاث عشرات العملاء من بينهم مسؤولين كبار في الدولة .
أخبار يقرأها رجل في الستين من عمره يجلس قبالة ساحل مزغران بمستغانم ، بينما يرتشف قهوة الصباح و يبتسم ، لكن كلما نظر إلى أفق البحر أمامه تذكر أنه ترك زوجة و إبنا ذات يوم من ثلاثين سنة ، خرج من فرنسا فارا حتى يحمي عائلته الصغيرة ، إنه سليمان راسم الضابط الجزائري في صفوف جيش التحرير و الجيش الوطني بعد الاستقلال ، أنشأ أسرة جديدة و تعلم كيف يداري جراح الماضي ، لكنه أبدا ما استطاع أن ينسى .
- أبي هناك رجل أمام البيت يسأل عنك
يستقبل سليمان ضيفه
- تفضل بالدخول سي مصطفى ، كيف الحال ؟
- لدي أخبار لا تصدق يا سي سليمان ،
- خير إن شاء الله
- خير ، خير
- و ما ذاك ؟
- نظن أن ضابط المخابرات الفرنسي الذي كان يعمل في الجزائر ، و الذي جندته شعبة مكافحة الجوسسة فرع عنابة هو من أصل جزائري و احتمال كبير يكون ابنك يوسف
ساد صمت عميق بين الرجلين و التهم الحزن عين سي سلبمان من جديد ، لقد تفتح الجرح و بدأ ينزف ، يذرف دموعا و تتقد فيه نار الشوق و الحب و الحنين
- ماذا تقول ؟ ،
- أجرينا تحقيقاتنا و تأكدنا ، لكن. للأسف يوسف اختفى منذ أشهر و لا نجد له أثر
- عليكم باستعادته سواء كان إبني أو لا ،
- سنعمل المستحيل لاستعادته
حمل ضابط اتصال فرنسي يعمل في سفارة فرنسا بالرباط اقتراحا من السلطات الجزائرية ، نحن على استعداد للقيام بتبادل للاسرى نسلمكم أربعة من عملائكم بالجزائر مقبوض عليهم بتهمة الجوسسة مقابل المسمى جوزيف راسم أو محمد مزاوي أو يوسف راسم لا يهم الإسم .
......في احتفال الجزائر بتأميم المحروقات ، استقبل رئيس جمهورية الجزائر إثنين من أبطالها ، سليمان راسم ضابط مخضرم متقاعد برتبة عقيد و ابنه يوسف راسم ضابط مخابرات شاب برتبة ملازم أول ، عمل كعميل مزدوج و انتهى به الحال في حضن وطنه ......
انتهت .....
إلى قصة أخرى رغم قلة التفاعل.