لقد قرأت ما يكفي من الروايات لأدرك أن الكتابة ما هي إلا عمليّة تصفية حسية ، تتخلص بها من كلّ علاقة معوقة الأطراف لتدفنها على اللامرأى من الحياة فيتهافت القراء لتقبيلها كأية هدية عشقية دون الإكتراث لكونها مجرد قبر آخر على شاكلة جديدة .
فأنت في الأخير لا تدفن سوى نفسك ، لإرضائهم !
لكن لم تكن اللعبة بهذه البساطة الساذجة ؛
فَلِكَيْ أرتدي قفازيْ الجريمة بهدوء من إعتاد مراسم الجنازات الأدبية لَشجاعة لم أتحل بها رُغم تعدد المحاولات الإغتيالية . و تماديًا في الجنون ، أخذتُ على غفلة من رزانتي قناعا خافيا لإرتباكي الأوليّ و سلاحا كاتما للصوت ما زلت أتوجس عدم كتمه لعشوائية نبضاتي المتقدة أثناء تصويب الهدف نحو الضحية ..
و هل بوُسعي حقا أن أقلب الأدوار فيغدو المغتصب ضحية بمجرد توجيه فوهة القلم ناحيته ؟
فغالبًا ما تقرر المحاكم العاطفية العفو التام على المشتبه به بذريعة العثور على دليل آخر يُقلب القضية في اللحظة ما قبل القضاء؛ كأنْ أُتهم بمهاجمة الطرف المقابل في حين لم أستخدم حتّى أدنى حقوقي الدفاعية عن روح ، كانت فيما مضى روحي ..
لم يعد يهم ،
فلقد أُعلنتْ ، تحت إنجراف ملامحي ، براءةُ القاتل !
اليوم لم يتبق لي سوى تاريخ حافل بأكوام من الجرائد الوجعية ، من التسجيلات لمضابح صوتية ، من الكتب القديمة التي كذبًا تشّخِصُني حالة إكتئابية ، من الأوراق المبعثرة التي سابقًا وُصفت كتحاليل دموية و المزيد الكثير من السواد الغير متجانس ..
ما زِلتُ في بعض الأحيان أعيدُ المشهد الدرامي لتعثري القدري على هذا النحو من اللاَحَظِ إذْ لم أكن لأتصور أنّ تذبذباته الخفقية إعجابًا بي ستكلفني كل هذه الهشاشة الجسدية،
ليكن ،
أوليس في الحب شيئا من الأنانية المفرطة في تشويه كل ما هو جميل و تلويث جل ما هو صالح للإستهلاك فينا ؟
أتساءل في خضم تخبطي ما الذي سيعفيني من لقائِه عشيّةً تحت نفس الظروف القهرية التي قابلته فيها البارحة أو ما الذي بوسعِ أناملي أن ترد على قصف رسائله المقرفة ما إن تلقي الشمس بتحيتها الصباحية علي ؟!
ثم أصمت ..
ليس لأنّني تقبلت هزيمتي قبل أن أحاول حتّى و لا لأنّني أجرب طرقا إنتحارية غير القفز من علو شاهق بل لأنّه لم تتبق لي من حرب لم أخضها بعد فجيشي قد أُعدمت مقاوماته و أسلحتي قد أُفرغت من ذخيرتها و أنا هنالك لستُ سوى نصفَ قطرٍ يطفو في وسط الدماء .
دماء إستشهادي
دماء فض بكارة صحتي !
و ما إن إنفكت أقتنع بأنني إغتسلتُ كفايةً من نجاسةِ أنفاسه الفحيحة فإذْ بي أتعثر مَرارةً و مِرارًا بِطِين تنمره النكير ، ملطخة بعارِ ذِنْبٍ أُدينْتُ به من قِبَل الحقير و السكير دون أن تسنح لي الصحافة بإلقاءِ خطابٍ مبررٍ لكلّ ما عشتُه من ضغوط قصوى أودت بي -على الرغم من إيماني -إلى هذا العهر و الفجور .
فلاش..فلاش..فلاش..
تُعلن الأخبار بعنوانٍ عريضٍ و مُعرضٍ للمزيد من الإشاعات بأنّ كلّ تصريحاتي ما هي إلاّ وسيلة مختصرة للشهرة . « كل الوسائل متاحةٌ» هو الملخص المشخِص الذي وُصفتْ به مأساتي الكونية لتبث من بعدها القنوات التلفزيونية تحشرجات إستنجاداتي المستميتة للتشبثِ بطوق نجاة هو الآخر سيُخرَقُ قبل أن يسلمني حبةً حيّةً لليابسة . أنظرْ، إنها تشيّع في الوقت الحالي إظطراب صحتي العقلية متكئة على فرضية حاجتي الماسة إلى طبيب نفسي ، بعضا من الأصدقاء و أقراص المهدئات المنومة لأحلامي الطفولية و الواعدة بكوابيس مسنة ..
أهنالك أكثر إيلاما مِنْ أن يشكك المرء في صلاحية خلاياه العصبية ؟
كتمثال إغريقي عتيق أقف في زاوية المسرح لأبكيني دفعة واحدة ، قطعة كاملة فأنا اليوم قد طمستُ الهوية المصفرة لعاطفتي و بعثرت الخارطة المصغرة لأحلامي لئلا تتكرر في وقت لاحق فجيعتي !
ها هي حدقتيَّ مصوبة بإتجاه نقطة هلاميّة لا تغني و لا تُسمن من بكاءٍ ، أترقب إنسحابه البطيء متزحلقًا على نهريْ وجنتيّ فيما تطالني قبضته الخشنة خانقةً و مهددةً بالإنقضاض عليّ إن تجرأتُ على فسخ هذه العلاقة المشوهة التي يدعوها هو تعلقًا و أسميها أنا هوسًا . مع ذلك ، أستيقظ يوميّا مُزْرقة الأعضاء و كلّي يسبق كلّي للسؤال إن هو حمل أخيرًا أحزمة ضجره بعيدا عن زورق أضلعي لِيتركني طليقةً من عبوديّة أفكاره النرجسية المازوشية .
و لكنّه لسبب ما لا يفعل ،
يقف على عتبة توقعاتي ما بين البقاء و الإقلاع . لا هو يمسكني بمعروف و لا هو يسرحني بإحسان لكي يتبين لي دَوري في هذه التراجيديا الفائقة و لذا أجدني في معظم الأحيان أنتحبُ شرهًا لممارسةِ حياةٍ ما عدتُ أمتلك إلا ثلثها .
كَمْ مِن مواساة توسلتُ جمعها ، إدخارها و كدسها داخل صندوقي العاطفي لعلّها تقيني من وحشة التحرش الذي أُرمى به ما إن أنبس ببنت شفة؟
و لكنني متعبة من بعد الآن !
لم تعد اللّغة تُجدي دفاعًا مجديّا فحتّى الجمعيات الخيريّة - التي طالبتها بشيء من الدفئ - خانتْ إلتواءات تضرعي مفضلةً الذئبَ الشرير على ليلى المسكينة ، فقط لأنه دفع القليل من الرشوة و إتصل ببعض المعارف القدامى للتستر على جميع الشكاوي المقدمة في حقّ إستبداده .
يأتيني صوت الإمام بعيدا ،متقطعا كذكرى منبثقة من الأعماق: « هل تقبلين .. بِ.. كامل إرادتك..دون أية ضغوطات ..؟ »
و لا أذكرني أجيبُ على هذا السؤال إلّا بشبه هزة جمجمية تُترجم كفايةً ذعري الخانق فأنا في الواقع ، لم أرتدي الفستان الأبيض إلّا تحت الترهيب السلاحي و لم أوقع على عقد القران سوى غصبا فوحده كان مبتهجا منتشيا بي !
ثم ماذا بعد ؟
كيف بوسعِي أن أُقنِع عائلتي بضرورة إسعافي من بين الأربعة حيطان الموصودة عليّ و بأنني لم أعد ألبي دعواتهم الزيارية إلّا لسلبه لي حق الخروج بأريحية بعيدًاعن مشاورته و إستئذانه ؟ عائلة لم تعد تصدقني بقدرِ ما باتت تلومني على ضعفي و خضوعي أمام جبروت تسلطه ..
إنني لا أقاوم أوامره سوى لخَوفي الخفي من هول سخطه فَتارةً يرفسني لحد التقيؤ و تارةً يجلدني من فروة رأسي إلى أخمص قدميّ إلى أنْ أتوسل رحمة و شفقة غير متوافرتين لديه . حينذاك فقط ، يسمح لي ببضعة ثواني من الحياة قبل أن يعاود الكرة مرةً رابعة أو خامسة فلقد أضاع حساب الجولات في حين أنني أعانقني ككتلة صلصالٍ مرددة بيني و بين آلامي : هذا أيضا سيمضي ..!
فلم تمضي سوى أحلامي .
حينما يهوي رأسي على الوسادة ليلاً مقابِلاً لشخيره المستفز على يميني تتفاقم بنات أفكاري متسائلة من أي ثغر تراه تسرب ليصل إلي كغازٍ سام و غير مرئي ؟ أو ما الخطيئة التي إرتكبت آثامها لأتكبل به حتى سرمدية النهاية ؟
بعد مرور ثلاث سنوات من الإهانة المستمرة و الإساءة المستديمة هاأناذا أتمرد على عشرته ، عشيرته و معاشرته كما لم تجرؤ عليه شجاعتي من قبل : أحمل لافتات عصياني عاليًّا و أصرخ بكامل شموخي إفتخارًا أنني اليوم سأعلن الثورة على إمتصاصه لطاقتي الجسدية مجانا دون أن أجني أي ربح ماديّ أو معنوّي سوى المزيد من الإلتهابات الجفنية و الهالات الأرقية .
في وسط كل هذه التأججات التي تلهبني و أضرمها أواصل المسيرة بذات العزيمة و الإصرار ، لا يعنيني قدومه العاصف ليجرني من أكوام قميصي طيلة المسافة الفاصلة بين الشارع و المنزل و لا حبسه لي لمدة أسبوعٍ عقابا على ما إقترفته من تهور فكلّ ما صار يلفت فكري هو أن أتخلص منه .
أشعر بالإرتياح على نحو مرعب أو لربما ذلك راجع لكون أسوأ ما قد يحدث ، حدث بالفعل و هكذا هجرتُ الغرفة المربعة و السرير المسمر دون أن ألتفت حسرةً أو ندمًا على ما تركتُه خلفي . على الأقل لن تتهمني المقالات بمتلازمة ستوكهولم و في ذلك نصر من نوع خاص !
دون أمتعة ، حقائب و ألبسة
دون إستغاثة ، غيث و كارثة
دون وعد ، ورد و عهد
أقف أمام القاضي بإرتباك متجدد دومًا و عينين دامعين حتمًا لأطالبَ بالطلاق دون أي تعويضٍ لخسائري السابقة .
إنني أطالب أيها القاضي بإستيراد صحتي لا غير !