في بلداننا العربية وفي الشرق الإسلامي كله سادت منذ عقود القرن الماضي "هيجة" تتعلق بالتقاليد تريد اقتلاعها وتنعتها بالبالية والعتيقة وبالرجعية والمتزمتة، فما حكاية هذه "الهيجة؟" وكيف جاءت؟ وإلامَ تهدف؟
ذلك ما حاول محمد قطب أن يتقصاه ويجيب عنه في كتابه "معركة التقاليد"، وعلى كتابه هذا نفتح من هنا نافذة لنستطلع أبرز ما جاء فيه.
ولأن الصيحات التي أعلنت حربها على التقاليد أعقبت اقتحام المستعمر الأوروبي لبلداننا وجاءت صدى لتوجهات فكرية تبناها الغرب وساقها معه إلينا فقد ارتحل الكاتب إلى هناك، ليجول مع التاريخ في أوروبا ويفهم نشأة الحكاية ومسارها.
ففي يوم من الأيام كانت أوروبا في مجموعها مسيحية، وكانت قارة ذات تقاليد، وحتى مع كونها غير عميقة التدين كان التصور الديني المسيحي هو الذي يسيطر على التفكير الأوروبي، وكان هذا التصور يقول إن هناك إلها واحدا هو الذي خلق الكون والحياة وخلق بعد ذلك الإنسان، وكان هذا التصور يقول إن للخالق قصدا من خلق الكون والحياة والإنسان، وإن للإنسان خاصة دوره الضخم في هذه الحياة، وكان هذا التصور فوق ذلك يقول إن الله أزلي ثابت، وإن قصده من خلق الإنسان هو كذلك قصد أزلي ثابت، ويرتبون على ذلك أن "الثبات" هو أصل الحياة وجوهرها، وفي ظل هذه الفكرة الثابتة كانت للناس تقاليد موروثة وثابتة تتغير قليلا وتتحور من جيل إلى جيل، ولكنها في مجموعها ذات أصول ومفاهيم ثابتة.
وسادت تلك التوجهات قرونا إلى أن جاءت الاهتزازات التي تلت نشر داروين كتابه "أصل الأنواع" سنة 1859 وكتابه "أصل الإنسان" سنة 1871، فقد جاء داروين بقول إنه لا شيء ثابت على وجه الأرض، لا النبات ولا الحيوان ولا الإنسان، وإنه ليس هناك قصد ثابت في الخليقة، بل لا قصد على الإطلاق، وإن الخالق -الذي يرى أنه الطبيعة- لم يقصد أن يخلق الإنسان إنما هو قد جاء هكذا نتيجة لعملية التطور البطيئة التي استغرقت ملايين السنين، فالإنسان -حسب قول داروين- لم يكن في منشئه إنسانا، وإنما أصله حيوان.
هزت نظريته المجتمع الأوروبي كله، وقامت قيامة الكنيسة، وقامت معركة عنيفة لم يهدأ أوارها حتى كان كثير من العقائد قد انهار وانهال عليه التراب، وقد وقفت الجماهير في أول الأمر إلى جانب الكنيسة التي هاجمت داروين، ولكن موقف الجماهير بعد ذلك تغير، فلئن كان قد عز عليها أن يسلبها داروين إنسانيتها ويردها إلى أصل حيواني فقد أخذت تشمت في الكنيسة ورجال الدين، ووجدت أن الفرصة سانحة للتخلص من نيرها المرهق وسلطانها البغيض بسبب ما فرضته عليهم من إتاوات وتضييق فكري.
دخلت الجماهير المعركة مع داروين في وجه الكنيسة، وأيا كانت طبيعة المعركة ودوافعها فقد كانت من المعارك الحاسمة في التاريخ، وتركت في حياة الناس آثارا بالغة الخطورة، فقد تغلغلت فكرة "التطور" الداروينية في أفكار الناس ووجدانهم وأخذت المكان الذي كانت تحتله من قبل فكرة "الثبات"، ونشأت الدعوة إلى ترك العقائد الموروثة باعتبارها مجموعة من الخرافات، وعدم الإيمان بشيء لا تدركه الحواس، وتزلزلت فكرة التصور الديني عن الإنسان وخلقه، والقصد من الخلق، وصار مطلقا من كل قواعد الخلق وقواعد المجتمع وقواعد التقاليد، لأنه صار يعتبرها "ثوابت زائفة" لا ثبات فيها، وناشئة عن "ضلالة" سابقة مستمدة من الدين.
ودعا هذا الفهم إلى إعادة النظر في "الأخلاق" بشكلها التقليدي، وعلى هذا ألغيت قداسة الرابطة الأسرية فتفككت، وتم التمرد على الصورة التقليدية للمرأة، وصارت العفة الجنسية مجرد قدس من أقداس الماضي، ولا مانع أن تنقلب إلى رذيلة ينفر منها المتحضرون.
ومع الداروينية ولد التفسير المادي للتاريخ الذي يعتبر أن تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام، وأنه ليس للعقيدة أو المبادئ وجود حقيقي في هذا التاريخ، لأن الناس محكومون بقوانين حتمية هي المادة والاقتصاد.
ولم تكن الموجة العنيفة التي أحدثتها نظرية داروين قد هدأت بعد حتى ظهر فرويد الذي جاء ليفسر السلوك البشري على أساس حيوانية الإنسان المطلقة، وليقول إن "الجنس" بمعناه الحيواني الخالص وبمعناه الحسي الشهواني وبمعنى حركات الجسد ومشاعر الجسد هو المحرك الأول والدافع الأصيل لكيان البشرية.
وقد فعلت الموجة العاتية التي أثارها فرويد فعلها، وانتشرت كالنار في الهشيم، انتشرت لتحطم الدين والأخلاق والتقاليد وتلوث كل تراث البشرية، وقد ظهرت على إثر فرويد مذاهب في الفن والأدب والتفكير تسعى كلها إلى عرض الجنس على أنه محور الحياة البشرية وعنصرها الأوحد، كما تسعى إلى تصوير قيود الأخلاق والتقاليد على أنها سخف لا ينبغي للبشرية أن تزاوله أو رياء لا يؤمن به أحد في دخيلة نفسه، ومن ثم ينبغي العدول عنه إلى صراحة الواقع، إلى صراحة الإنسان العريان.
ومع هذا وذاك ساهمت ظروف الثورة الصناعية وظروف الحرب العالمية الأولى في رفع النداء بحرية تحطيم التقاليد، وزادت الفتنة بالعلم، وحدث تقدم باهر في ميدان العلم وعالم المخترعات، تقدم أفقد العقول توازنها، وهناك نبذت أوروبا إلهها كما قال سومرست موم، وآمنت بإله جديد اسمه العلم، وتحللت من التدين ومن كل القيم والمفاهيم التي صاغها الدين من قبل.
كانت تلك هي التحولات التي حدثت في أوروبا، وقد قامت إلى حد بعيد على أساس من أفكار داروين وفرويد التي تأخذ جانبا من الحقيقة لتغطي به جملة من الأباطيل، وهي أفكار تناقضها وقائع التاريخ، وقد تعرضت لردود وانتقادات، لا من الذين يرتكزون إلى معتقدات دينية فحسب، بل من الملاحدة أنفسهم أيضا، وقد ساق الكاتب جانبا من هذه الردود، ولكن تلك الأفكار على ما هي عليه فعلت فعلها وأحدثت واقعا يفسر -وإن كان لا يبرر- انهيار الأخلاق والتقاليد في أوروبا.
وعند هذا الحد في مسار الكتاب يعيد المؤلف تحويل ناظريه إلى العالم الإسلامي متسائلا: إذا كانت تلك قصة حدثت في أوروبا فما بالنا نحن؟ هل كانت لنا كنيسة تطاردنا في يقظتنا ومنامنا بالإتاوات الثقيلة والخضوع المذل لرجال الدين؟ هل قامت في تاريخنا الديني كله عداوة بين الدين والعلم كالتي قامت في أوروبا واضطهدت غاليليو لقوله بكروية الأرض؟ ماذا حدث في حياتنا من وقائع تبرر الانهيار الذي نعانيه أو نفسره على أقل تقدير؟ ماذا غير العبودية التي اندست في نفوسنا للغرب المستعمر الذي لم يستعمر الأرض بجنوده فحسب، وإنما استعمر كذلك القلوب والأرواح والمشاعر والأفكار؟
إذا كان شيئا من ذلك لم يحدث فعلينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا.
فلنكن صرحاء، ولنقل إننا نقلد الغرب المستعمر تقليد العبيد.
فلنكن صرحاء، ولنقل إن النداءات التي تدعو إلى نسف التقاليد هي في حقيقتها تمرد على ضبط رغبات الإنسان، لأنها لا تريد لهذه الرغبات أن تبقى في إطارها الإنساني، وإنما أن تستجيب لشهوات بهيمية مجنونة.
فلنكن صرحاء، ولنقل إنه تحت عنوان تحرير المرأة تتحرك رغبات مريضة بالحصول على المرأة بطريقة لا تحكمها ضوابط ولا توقفها حدود، وباسم عمل المرأة تمارس تجارة الرقيق الأبيض وراء الجدران وخارجها.
فلنكن صرحاء، ولنقل إننا نكره الترفع ونكره الصعود، ونريد الانسياق لرغباتنا وشهواتنا وأهوائنا.
وإذا كانت دعوات الثورة على التقاليد ترفع شعار التحرر بشكل خادع فإن ذاك التحرر هو شيء آخر يختلف عن التحرر الذي جاء به الإسلام ليرفع شأن الإنسان، فالإسلام نظام يوازن بين المادة والروح ويراعي حقيقة أن الإنسان قبضة من طين الأرض أكسبتها الكرامة والتفضيل على غيرها من الخلق نفخة من روح الله.
وشهوات الطعام والجنس وغيرها من حوائج الجسد التي يقول العلم اليوم إنها مجموعة من الكيميائيات لا تنقص قدره ولا تحط من قيمته بشرط أن تظل على هيئتها الأصلية في فطرة الإنسان ممتزجة بنفخة الروح لا منفصلة عنها ولا لاصقة بالطين.
وفي ظل هذا النظام حينما يعبد الإنسان الله حق عبادته ويتصل به الاتصال الحق يحس من لحظته بضآلة كل قوة أخرى على الأرض وكل قيمة أخرى وكل سلطان، وعند ذلك يتحرر.. يتحرر من الضغط الواقع عليه من داخل نفسه ومن خارجها على السواء، ضغط الشهوات والضرورة من جانب، وضغط المجتمع وقواه الاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر.
والإسلام هو الحياة كلها في صورة نظيفة، الصورة التي تلتقي بفطرة الحياة كلها.. الفطرة التي لا تكتفي بأداء الضرورة، وإنما تؤدي الضرورة بأحسن وجه.
وصورة المجتمع المسلم قد تبدو وكأنها مُثُل خيالية أو أمنيات وأحلام، ولكنها واقع شهدته الأرض مرة بكل حقيقته وكل واقعيته في فترة رائعة من فترات التاريخ ويمكن أن يعود، وسوف يعود إن شاء الله.