
منذ أشهر قليلة فقط انتقل غسّان و زوجته سعاد إلى منزلهما الجديد داخل الريف الجميل الساحر , كان حلمهما قد تحقق أخيراً عندما وجدا هذا المنزل الرائع البديع في هذه البقعة الهادئة الجميلة وسط طبيعة غنّاء فاتنة , كان منزلهما الجديد يتوسّط منزلين قديمين من ذات الطراز المعماري و تعود فترة بنائهما لنفس الحقبة الزمنية تقريباً , كان يقطن المنزل على الجهة اليمنى من منزل غسّان و سعاد الجديد عائلة صغيرة شابة , أب و أم و طفلين صغيرين , كانوا يتبادلون معهم تحية الصباح كل يوم فيما عدا أيام العطل والتي نادراً ما كان أفراد هذه العائلة يخرجون فيها من منزلهم ,أما المنزل الآخر و الذي هو على الجهة اليسرى فلا يعرفون من هم أصحابه و من يقطن فيه , إذ يبدو أنهم من ذلك النوع من البشر و الذي يحبّذ العزلة و الإنطواء بعيداً عن هموم الناس و مشاكلهم ..
كان أهم ما يميز المكان الجديد لغسّان و سعاد هو الهدوء و السكينة , حيث أنفاس الصباحات الجميلة والتي تمنح شعوراً رطباً هائماً يأخذك بعيداً نحو سحر الطبيعة و هيامها , العصافير تغرّد مع أولى نسمات الصباح الباكر و تنشد أجمل الألحان و أعذبها , أما المساء , والذي بالكاد تُسمع فيه همسات أوراق الأشجار و صوت الريح الخجولة و هي تداعب باصرار و عناد أغصان الأشجارالخضراء , إنها بقعة عذبة من الطبيعة الخلّابة الهانئة ...
في أحدى الليالي المقمرة و بينما كان غسّان و زوجته يغطّان في نوم عميق , استفاق غسّان فجأة على صوت ضجيج صاخب , أضاء المصباح الذي بجانبه , نظر في ساعته , إنها الثانية بعد منتصف الليل , ما هذا الضجيج ؟ و من أين يصدر؟ ..
"هل تسمعين ما اسمعه يا سعاد ؟" خاطب غسّان زوجته و التي ردّت بشيء من العصبية:
" نعم اسمع و كأنها أصوات أثاث ثقيل يتم نقله , هي غالباً تأتي من المنزل المجاور لنا "
"أنا ذاهب لاستطلع الأمر و أتبيّن من هو المسؤول عن هذا الضجيج المزعج في هذا الوقت المتأخر من الليل " قال غسّان و هو ينهض من فراشه ..
في لحظات , انطلق خارج منزله , كان صوت الضجيج ما يزال مسموعاً و كان واضحاً جداً أنه يصدر من ذلك المنزل على الجهة اليسرى من منزل غسّان ..
" سوف أقصد سكان ذلك المنزل و أعبّر لهم عن انزعاجي و امتعاضي من تصرفهم الطائش هذا " قال غسّان في سره و هو يقف أمام باب بيتهم ..
دقّ باب البيت و انتظر , كان هنالك ضوء خافت يصدر من احدى الغرف في الطابق الأرضي ..
لم يجبه أحد , انتظر غسان و أعاد طرق الباب من جديد , مرّت دقائق طويلة و غسّان ينتظر و قبل أن يفقد الأمل , سمع خطوات ثقيلة تقترب من الباب ثم فُتح الباب و لكن ليس بشكل كامل , بدت لغسّان سيدة عجوز , شعرها رمادي فاتح , تضع الكثير من مساحيق التجميل على وجهها الباهت ..
" من فضلك سيدتي , أنا أقطن في المنزل المجاور لمنزلك , أصوات الضجيج التي تصدر من بيتك هذا تزعجني و تؤرقني , أرجو أن يتوقف هذا في الحال و إلا سأبلغ الشرطة .." قال غسّان للسيدة العجوز و التي رمقته بنظرة حادة ثم أغلقت الباب سريعاً ..
كانت مقابلة باهتة جداً و ليست بودّية ..
عاد غسان إلى منزله في الحال و بعد أقل من دقيقة واحدة , توقّف صوت الضجيج و عاد الهدوء التام إلى المكان ..
"يبدو أن السيدة العجوز قد استجابت لطلبي " قال غسان لزوجته و التي عادت للنوم سريعاً بعد سماعها لكلمات زوجها ...
في صباح اليوم التالي و بعد أن تبادل السيد غسّان كالعادة تحية الصباح مع جاره ساكن المنزل المجاور لمنزله من جهة اليمين , بادره بالقول:
" كان ليلتنا البارحة مضطربة جداً , لم نستطع أنا و زوجتي أن ننعم بنوم هانىء , كان الضجيج الصادر من بيت جيراننا مزعجاً لدرجة كبيرة " قال غسّان لجاره الشاب و هو يشير بإصبعه نحو المنزل الآخر المجاور لمنزله ..
" أمر غريب فعلاً , لم نسمع أي شيء من هذا القبيل ليلة البارحة " أجاب الجار الشاب للسيد غسّان و علامات الدهشة و الاستغراب قد بدت على ملامح وجهه البريء ..
" لعل الصوت لم يصلكم بتلك الحدة نظراً لأنني أقرب منه إليكم " قال غسّان ثم تابع بالقول:
" على العموم , قصدت المنزل و تحدّثت للسيدة العجوز التي تقطنه و قد استجابت لشكواي و توقف صوت الضجيج بعد ذلك "
" ماذا ! ماذا تقول !!! أنت تحدثت إلى سيدة عجوز تسكن ذلك المنزل ؟؟!! " قال الجار الشاب بفزع و خوف وأضاف:
" هل أنت على ما يرام جاري العزيز؟ "
" نعم , نعم , هذا ما حصل معي ليلة البارحة " قال غسان مستغرباً ردّة فعل جاره العنيفة ثم تابع:
" ما الأمر؟ لما أنت مستغرب و غير مصدق لما قلته لك ؟ "
" لأن البيت ... لأن ذلك البيت .. مهجور منذ مدة طويلة و لا يسكنه أحد حالياً " أجاب جار غسان بتعجب و أكمل بالقول:
" أصحابه السابقون , رجل عجوز و زوجته العجوزة , قضوا غرقاً في البحيرة أثناء عودتهم من رحلة بحرية , كان ذلك منذ سنوات طويلة , و ليس لهم أبناء أو ورثة , لم يدخل أحد بيتهم منذ مصرعهما ..!! "
" لا بد أنك كنت تحلم جاري العزيز " قالها مع ابتسامة خفيفة و هو يهمّ بالانصراف .
لم يكن غسان و زوجته يؤمنان كثيراً بالأشباح و الخرافات و تقمص الأرواح , إلا أنهم قررا الانتقال في اليوم التالي للعيش في شقة صغيرة مستأجرة بمركز المدينة و قاما في الوقت نفسه بعرض منزلهما الريفي الهادىء للبيع .
^^^^^
تمّت بعون الله